ميادين الغيّ جهلًا باستدراج الله، وأمنًا لمَكْرِه، فبُعدًا للقوم الظالمين.
أيها الناس، إنَّ أمير المؤمنين إنَّما عاد إلى الخطبة بعد الصلاة لأنه كَرِه أن يخلِطَ بكلام الجمعة غيرَه، وإنما قطَعَه عن الكلام ما هو فيه من الوَعْك، فادعوا الله له بالعافية؛ فقد أبدلكم الله بمروان عدوِّ الرحمن، وخليفةِ الشيطان، الشابَّ المكتهل، والفتى المتمهِّل (?)، المقتفي بسَلَفِهِ الأخيار، وأهله الأبرار. ثم أثنى على أهل خراسان، ونزل.
وقيل: إنه قال: وإن هذا الأمر فينا، وليس بخارج عنَّا، فظنَّ الناس أنه يدعو لنفسه، ففطِنَ، فقال: واعلموا أنه ما صَعِدَ المنبرَ بعد أمير المؤمنين عليٍّ مثلُ خليفتكم هذا، ففرح الناسُ ودعوا له، وأيقنوا أنَّ الخليفة هو أبو العباس.
وكان بنو أميةَ يخطبون قعودًا؛ تكبُّرًا منهم، ومخالفة للسنة، فقام السفاحُ وخطبَ قائمًا؛ اقتداءً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء من بعده -رضي الله عنهم-، فضجَّ الناسُ له بالدعاء، وقالوا: أحييتَ السنةَ يا ابنَ عمِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ولما صَعِدَ أبو العباس المنبرَ كان بيده عصًا، فوقعت من يده، فتطيَّر من ذلك، فناوله إياها داود بن علي، وأنشده: [من الطويل]
فألقَتْ عصاها واستقرَّت بها النَّوى ... كما قرَّ عينًا بالإيابِ المسافرُ (?)
وقال هشام الكلبي: بينا أبو العباس في خطبته بالكوفة، وهي أول خطبة خطَبَها، إذ قام إليه رجلٌ وفي عنقه مصحفٌ، فقطع عليه الكلام وقال: يا أمير المؤمنين، أنا رجلٌ من آل أبي طالب، أَنْشُدك الله إلا أخذتَ بحقِّي ممَّن ظلمني. قال: ومن ظلمَكَ؟ قال: ابنُ أبي قحافة. قال: وما الذي فعل بك؟ قال: أخذَ ميراثَ أُمِّي فاطمة من فَدَك. قال: فمَنْ قام بعده؟ قال: ابنُ الخطَّاب. قال: فما فعَلَ في ميراثك؟ قال: استمرَّ على ظلمي. قال: فمن قام بعده؟ قال: ابنُ عفَّان. قال: فما فعل معك؟ قال: فعل كما فعل من تقدَّمه. قال: فمن قام بعده؟ قال: أبي عليٌّ. قال: استمرَّ على ظلمك، أم رد حقَّك