فلما غفل الحرس خرج يزيد وعليه ثياب طَبَّاخه، وعلى رأسه سَلَّة فيها زبادي، وقد جعل على وجهه لحية بيضاء، فرآه بعض الحرس فقال: هذه مشية يزيد، فجاء فنظر إِلَى وجهه، فرأى بياض اللحية فانصرف عنه وقال: هذا شيخ، وخرج المفضّل على أثره، وقد هُيِّئت لهم السفن فِي البطائح، وبينهم وبين البصرة ثمانية عشر فرسخًا، ولما وصلوا إِلى السفن أبطأ عليهم أخوهم عبد الملك، فقال يزيد للمفضل: اركب بنا فهو يلحقنا، فقال المفضل: لا والله لا أبرح حتَّى يأتي عبد الملك ولو رجعت إِلَى السجن، وكان المفضل شَقِيق عبد الملك [لأمه] وأمهما بَهْلَة؛ هندية.
ولحقهما عبد الملك، وركبوا السفن وساروا ليلتهم حتَّى أصبحوا، ولم يعلم بهم الحرس حتَّى طلع النهار، فخافوا من الحجاج، وأخفوا أمرهم عامة النهار وهربوا، واتّفق أن الحجاج لم يأمر بتعذيبهم فِي ذلك النهار.
ولما علم الحجاج بهم جَزع، وظنّ أنَّهم يقصدون خراسان، فكتب إِلَى قتيبة بن مسلم يأمره أن يَحترز منهم، وبعث إِلَى أمراء الثُّغور يُحذّرهم، ويأمرهم برصدهم، وقال: هذه مثل نَوبة ابنِ الأشعث، وكتب إِلَى الوليد يخبره، وقلق الحجاج لهرَبهم، وشَغله ذلك عن الأمور، وأقام أيامًا واجمًا.
وأما يزيد وإخوته فاستقبلتهم الخيل من تحت البطائح، فخرجوا من السفن، وركبوا ومعهم دَليل يقال له: عبد الجبار بن يزيد بن ربيعة (?)، كلبي، فقصدوا أرض الحجاز، ثم تيامَنوا إِلَى السَّماوَة يريدون الشَّام، وقصدوا أرض فلسطين، فنزلوا على وُهَيب بن عبد الرحمن الأَزدِيّ -وكان كريمًا على سليمان بن عبد الملك، وكان سليمان نازلًا بفلسطين- فدخل وُهَيب على سليمان فقال: هذا يزيد بن المهلّب وإخوته فِي منزلي، وقد جاؤوك مُسَتجيرين بك من الحجاج، فقال سليمان: ائتني بهم فهم آمنون، لا يوصل إليهم وأنا حي، فجاء بهم فدخلوا على سليمان، فأكرمهم وأحسن إليهم، وأقاموا عنده فِي أمن، وقال دليلهم الكلبي فِي مسيرهم: [من الطَّويل]
ألا جعل الله الأخلَّاء كلَّهم ... فِداءً على ما كان لابنِ المُهَلَّبِ