العرب - على ما ترى - قد انتَقَضَتْ بك، وليس لك أن تُفرِّق جماعة المسلمين.
فقال أبو بكر: والله لو تَخَطَّفني الطَّيرُ لأَنفذتُ جيشَ أسامة على ما أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو لم يَبقَ غيري لأَنفذتُه، قال: فإن الأنصار يسألونك أن تُوَلَّي عليهم رجلًا منهم أقدمَ سنًا من أسامة، فوثب أبو بكر، وأخذ بلحية عمر، وقال: ابن الخطاب، أيَستعملُه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأَنزعُه أنا؟ أتأمُرُني أن أَرُدَّ قضاءً قضى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فخرج عمر إلى الناس، وقال: ثَكِلتكُم أمُّكم، ماذا لَقيتُ بسببكم من خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وخرج أبو بكر بنفسه حتى أتى جيش أسامة، فأَشخَصَهم، وشَيَّعهم ماشيًا، وأسامةُ راكبٌ، وعبد الرحمن بن عوف يقودُ دابَّةَ أبي بكر، فقال له أسامة: والله لترَكَبَنَّ أو لَأنزِلَنَّ، فقال أبو بكر: والله لا تَنزل ولا أركب، وما عليَّ أن أُغَبَّرَ قدميَّ في سبيل الله، فإن للغازي بكلَّ خُطوة يَخطوها سبع مئة حسنة، ويُمحى عنه سبع مئة سيئة.
ثم أوصى الناس فقال: أُوصيكم بعشر فاحفظوها عني: لا تخونوا، ولا تغدِروا، ولا تُمثّلوا، ولا تقتلوا طفلًا ولا شيخًا ولا امرأة، ولا تحرِقوا نَخْلًا ولا تَعقِروه، ولا تقطعوا شجرةً مثمرةً، ولا تذبحوا شاةً ولا بقرةً ولا بعيرًا إلا لمَأكَلَة، وسوف تَمرُّون بأقوامٍ قد فرَّغوا نفوسَهم في الصوامع، فدعوهم وما فَرَّغوا نفوسَهم له، وسوف تَلقَون أقوامًا قد فَحصوا أوساطَ رؤوسهم، وتركوا حولها مثل العصائب، فاخفِقوهم بالسيوف خَفْقًا، اندفعوا بسم الله.
وسأل أبو بكر أسامة أن يَأذن لعمر بن الخطاب في المقام عنده، وقال: لا غِنى لي عنه، فأذن له، ثم قال أبو بكر لأسامة: ابدأ بما أمرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - به من الغارة على بلاد قُضاعة، ثم ائْتِ مُؤتة، ولا تُقَصِّرَنَّ في شيءٍ أمرك به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأغر غارةً سِجالًا يتلاقى عليك جيوش الروم.
فسار أسامة حتى انتهى إلى المكان الذي أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بلاد قُضاعة والشام وفلسطين، حتى بلغ الدَّارُوم، وعاد سالمًا غانمًا لهلال جُمادى الأولى.
وكانت غيبتُه أربعين يومًا، وقال عكرمة: غاب خمسين يومًا لأنه سافر في سادس عشر ربيع الأول، وعاد في خامس جمادى الأولى.