واتَّخذ منها قَوساً، فمرَّت به قُطعانٌ من حُمُرِ الوَحْش ليلاً، فرمى عيراً فأنْفَذَها، وخرج السَّهمُ منها فأصاب الجبل، فأَوْرى ناراً، فظنَّ أنه أخطأ، ثم مرَّ قطيع آخر، فرماه فأَنْفَذَه، وخرج السهمُ فأصاب الجبل، فظنَّ أنه أخطأ، فعل ذلك مِراراً وهو يظنُّ أنه يُخطئ، فعمد إلى قوسه فكَسَرها من حَنَقِه، فلما أَصبح نظر إلى الحُمُرِ قَتْلى مُضَرَّجة بالدم، فنَدِم، وعَضَّ إبهامَه فقطعها، وقال: [من الوافر]
نَدِمْتُ نَدامةً لو أن نَفسي ... تُطاوِعُني إذاً لَقطعتُ خَمْسي
فضَربت العربُ به المثل في كلِّ أمرٍ يُندَمُ فيه (?).
أَنْسَبُ من دَغْفَل الشَّيباني، وقيل: السَّدُوسِيّ، واختلفوا في صُحبَتِه (?)، كان أَعلمَ أهلَ زمانه بالأنساب والعربيَّة والنُّجوم، وَفَد على معاوية فقال له: بم عَلِمْتَ ما عَلمت؟ فقال: بلسانٍ سَؤول، وقَلبٍ عَقول. وكان عند معاوية قُدامَةُ بنُ جَراد القُرَيعي، فنَسَبه حتى بَلغَ أباه الذي وَلَده، ثم قال له: وَلد جَراد وَلَدين: أحدُهما ناسك والآخر شاعر سَفيه، فممن أنت منهما؟ فقال: من الشاعر (?).
وكان قد ذهب بَصَرُه، فمرَّ عليه واحدٌ من الأنصار، أو جماعةٌ من الأنصار، فسلَّموا عليه، فقال: مَن أنتم؟ فقالوا: أَشرافُ أهلِ اليَمن. فقال: من أهل مَلِكها القديم، وشَرَفها العَميم كِنْدة؟ قالوا: لا. قال: فمن الطِّوال قَصَباً، المُمْحَضين نَسَباً، بني عبد المَدَان؟ قالوا: لا. قال: فمن أَقْوَدِها للزُّحوف، وأَخْرَقِها للصُّفوف، وأَضْرَبِها بالسيوف، بني زُبَيْد؟ قالوا: لا. قال: فمن أَحْضَرِها قِراءً، وأَطْيَبِها فِناءً، وأصدقها لِقاءً، طَىِّء؟ قالوا: لا. قال: فمن الغارِسِين للنَّخل، والمُطعِمين في المَحْل، والقائلين بالعَدْل، الأنصار؟ قالوا: نعم (?).