ولما اجتمعت العساكر على حلب سُرَّ نور الدين بقدومها، وسار إلى حارم، فنازلها، وبلغ الفرنج، فحشدوا وجاؤوا في ثلاثين ألفًا، وفيهم البرنس صاحِبُ أنطاكية والقُومص [صاحب طرابُلُس وابن جوسلين والدوك، وهو رئيس القوم] (1)، وكان فيهم من الرَّجَّالة ما لا يُحصى، ولما تراءى الجمعان صَعِدَ نور الدِّين على تلٍّ عال، فشاهد من الفرنج ما أذهله وهاله، فنزل من التل، وانفرد عن العساكر، ونزل عن فرسه، وصلَّى ركعتين، ومرَّغ وجهه على التراب، وبكى، وقال: يا سيدي، هذا الجيش جيشك، والدين دينك، ومن محمود في البين، افعل ما يليق بك. وحملتِ الفرنجُ على الميمنة، وفيها عسكر حلب، فاندفعوا بين أيديهم ليبعدوا عن الرَّاجل، وتبعهم الفرنج، فعطفَ نورُ الدِّين على الرَّجَّالة، فحصدهم بالسَّيف، ورجعت الفرنج، فلم يروا من الرَّجَّالة أحدًا، فانخلعت قلوبُهم، وأحاط بهم المسلمون، فذلّوا، وخضعوا، وعمل فيهم السَّيف، فلم يبقَ منهم إلَّا من نجا به فرسه، وأَسَرَ نورُ الدِّين من سَمَّينا من ملوكهم، وستَّة آلافٍ من أكنادهم، وغَنِمَ ما كان معهم من الأموال والخيل والسِّلاح والخيام، وغير ذلك، وفَتَحَ حِصنَ حارم في حادي عشرين رمضان يوم الجمعة، وعاد إلى حلب بالأسارى والغنائم، وامتلأت حلب منهم، فبيع الأسير بدينار، وفرَّقهم نور الدين على العساكر، وأعطى أخاه وصاحِبَ الحِصن الأموال العظيمة، والتُّحف الكثيرة، وعادوا إلى بلادهم، ثم فاداهم نور الدين.
وكان قد استفتى الفُقَهاء، فاختلفوا، فقال قوم: يقتل الجميع. وقال آخرون: يفادي بهم. فمال نورُ الدِّين إلى الفدية، فأخذ منهم ست مئة ألف دينار معجلة، وخيلًا، وسلاحًا وغير ذلك، فكان نورُ الدِّين يحلف بالله أَنَّ جميع ما بناه من المدارس والربط [والمارستانات] (?) وغيرها من هذه المفاداة، وجميع ما وقفها (?) منها، وليس فيها من بيتِ المال دِرْهمٌ واحد.