روائحهم، ضاحكة أسنانهم، فقلت لهم: من أين جئتم؟ فقالوا: من الجنه. فقلت: ما فعلتم؟ فقالوا: زرنا القاضي الإمام أبا بكر الأشعري، فقلت: وما فعل الله به؟ فقالوا: غفر له، ورفع له في الدرجات. قال: ففارقتهم، ومشيت، وكأني رأيت القاضي أبا بكر، وعليه ثياب حسنة، وهو جالس في رياض خضرة نضرة، فهممت أن أساله عن حاله، وسمعته يقرأ " أفهو في عيشة راضية في جنة عالية " - الحاقة 21 - 22 - فهالذي ذلك فرحاً، وانتبهت. ولما توقني رثاه بعضهم في هذين البيتين:
انظر إلى جبل تمشي الرجال به ... وانظر إلى القبر ما يحوي من السلف
انظر إلى صارم الإسلام منغمداً ... وانظر إلى درة الإسلام في الصدف
قلت: لقد ضمن هذين البيتين مدحاً عظيماً يليق بجلالة الإمام المذكور، ويناسب حاله المشهور، ولكن لو أبدل لفظين من بيته كان أحسن وأنسب - فيما أرى - أحدهما قوله ما يحوي من السلف لو قال: من الشرف، والثاني قوله درة الإسلام لو قال: درة التوحيد، لتغاير بين اللفظين، فإنه قد قال في هذا البيت: صارم الإسلام والتوحيد. وإن كان الإسلام داخلاً فيه، فالمغايرة بين الألفاظ وإن اتحدت معانيها أحسن وأبعد من كراهة التكرير ومن قصيدة مدحه بها أبو الحسن السكري، قال بعد ذكر الغزل:
ملكت محبات القلوب ببهجة ... مخلوقة من عفة وتخبب
فكأنما من حيثما قابلتها ... شيم الإمام محمد بن الطيب
اليعربي بلاغة وفصاحة ... والأشعري إذا اعتزى للمذهب
قاض إذا التبس القضاء على الحجى ... كشفت له الآراء كل مغيب
لا تستريح إذا الشكوك تخالجت ... إلا إلى لب كريم المنصب
وصلته همته بأبعد غاية ... أعني المريد بها سلوك المطلب
أهدي له ثمر القلوب محبة ... وحباه حسن الذكر من لم يحبب
ما زال ينصر دين أحمد صارعاً ... بالحق يهدي لطريق الأصوب
والناس بين مضلل ومضلل ... ومكذب فيما أتى ومكذب
حتى انجلت تلك الضلالة فاهتدى ... الساري وأشرق جنح ذاك الغيهب
وفيها توفي الأمير شمس المعالي أبو الحسن قابوس بن أبي طاهر الجيل، أمير جرجان وبلاد الجيل وطبرستان. قال الثعالبي في اليتيمة: أختم هذا الكتاب بذكر خاتم الملوك، وغرة الزمان، وينبوع العدل والإحسان، ومن جمع الله سبحانه له إلى عزة العلم