ومن ورعه ما ذكروا أنه أهدي إليه طعام، وهو في سجن المتوكل، فأتاه رسول السجان فحمله إليه فامتنع من أكله، فقيل له في ذلك فقال: طعام أتاني على مائدة ظالم فلا آكله، أو كما قال، ويعني بمائدة الظالم كف السجان التي حملت الطعام إليه من باب السجن.
وقال إسحاق بن إبراهيم السرخسي: سمعت ذا النون يقول وفي يده الغل وفي رجله القيد، وهو يساق إلى المطبق، والناس يبكون حوله، وهو يقول: هذا من مواهب الله وعطاياه، وكل عذب حسن طيب، ثم أنشد:
لك من قلبي المكان المصون ... كل يوم علي فيك يهون
لك عزم بأن أكون قتيلاً ... فبك الصبر عنك ما لا يكون
ولما أخرج من السجن، وأدخل على المتوكل وعظه حتى بكى وخرج من عنده مكرماً. اجتمع إليه الصوفية في الجامع في بغداد، واستأذنوه في السماع، وحضر، القوال، وأنشد شعراً:
صغير هواك عذبني ... فكيف به إذا احتنك
وأنت جمعت من قلبي ... هوى قد كان مشتركاً
فتواجد ذو النون، وسقط فأنشج رأسه. وكان يقطر منه الدم، ولا يقع على الأرض، فقام شاب يتواجد، فقال ذو النون: الذي يراك حين تقوم، فقعد الشاب. قال بعض الشيوخ: كان ذو النون صاحب إشراف، والشاب صاحب إنصاف، يعني لما قيل منه، فقعد إذ لم يكن في قيامه كامل الصدق.
ومن كلام ذي النون: من علامة المحب لله متابعة حبيب الله صلى الله عليه وآله وسلم في أخلاقه وأفعاله وأوامره وسنته.
وسئل عن التوبة فقال: توبة العوام عن الذنوب، وتوبة الخواص من الغفلة. وله من الحكايات الغريبات والكرامات العجيبات ما يتعذر حصره، ولا يليق بهذا الكتاب.
وقد ذكرت شيئاً من ذلك في الكتب اللائقة ذكره بها، المحبوبة عند أهلها، ولكني أذكر من كراماته التي هي بفضله شاهدة ها هنا كرامة واحدة وهي ما ذكر خلائق من الصالحين، ورواه عنهم كثير من العلماء العاملين أن الشيخ الكبير المشهور أبا الفيض ذا النون المذكور كان مع بعض أصحابه في البراري في وقت القائلة، فقالوا: ما أحسن هذا