ودلت بأمثال الأثافي كأنها ... رؤوس نقبا ذرفت لا تجمع
وقلت ليتني لسر اليوم أنه ... حمى أمنا مما يفيد ويجمع
فإن كنت مصفوراً فهذا دواؤه ... وإن كنت غرثاناً فذا يوم يشبع
قال: فضحك الرشيد، وقال: الدنيا ليس فيها مثلك حسن، قال: فدعوت له وفضلته على الملوك بحبه العلم وإحسانه أهله " قوله علم بكسر العين هو نمط تجعل فيه المرأة ذخيرتها "، وكان الرشيد يحب الوحدة، وكان إذا ركب عاد له الفضل بن الربيع، وكان الأصمعي يسير قريباً منه بحيث يحادثه، وإسحاق الموصلي يسير قريباً من الفضل، وكان الأصمعي لا يحدث الرشيد شيئاً إلا وسر به وضحك، فحسده إسحاق، فقال إسحاق للفضل: كل ما يقوله كذب، فقال الرشيد: أي شيء قال؟ فأخبره، فغضب الرشيد، فقال: والله إن كان ما يقوله كذباًً إنه لأظرف الناس، وإن كان حقاً إنه لأعلم الناس.
قال الأصمعي: قال لي الرشيد: أما ترى قبيح أسماء سكك بغداد، مثل قطيعة الكلاب ونهر الدجاج وأشباه ذلك، فهل للعرب مواضع قبيحة الأسماء؟ قلت: نعم، قد قال: الراجز: " ما ترى ملح بارف سقيت ماؤه بير فشر ورى فقر درى لحنونا فلحسه " فقال: ولله درك يا أصمعي، ما رأيت مثلك، خلقت لهذا الشأنه وحدك.
وقال: قدمت على الرشيد، فاستبطأني، فقلت: ما لاقتني أرض حتى رأيت أمير المؤمنين، فلما خرج الناس، قال: ما معنى ما لاقتني؟ قلت: ما ألصقتني بها، ولا قبلتني، فقال: هذا حسن، ولكن لا تكلمني بين يدي الناس إلا بما أفهمه، حتى أجد جوابه، فإذا خلوت فقل ما شئت، وإنه لقبيح بالسلطان أن يسمع ما لا يدري، فإما أن يسكت ويعلم الناس أنه ما فهم، أو يجيب بغير الجواب، فيتحقق عندهم ذلك، فقلت: قد والله أفسدت إفساداً في أمير المؤمنين عن التأدب أكثر مما أفسدته، وقال: قال لي المأمون أيام الرشيد: لمن هذا البيت؟
ما كنت إلا كلحم ميت ... دعا إلى أكله اضطرار
فقلت: لابن عيينة المهلبي، فقال: كلام شريف، ثم قال لي: يا أصمعي، كأنه من قول الشاعر:
وأن يقوم سوده كالفاقة ... إلى سيد لو يظفرون بسيد
فقلت له: والله جاؤا به الأمير، وعجبت من فهمه مع صغر سنه.