المذكور ومؤانسة كثيرة، وصحبة صحيح المودة، فجئت إليه أنا وأخي، وكتب إلى سلطان بلدنا الملك المعظم كتابًا بليغًا في حقنا. يقول فيه: أنت تعلم ما يلزم من أمر هذين الولدين، فإنهما ولدا أخي، وولدا أخيك، ولا حاجة مع هذا إلى تأكيد وصية، وأطال القول في ذلك، فتفضل القاضي أبو المحاسن، وتلقانا بالقبول والإكرام، وعمل ما يليق لمثله، وأنزلنا في منزلة، ورتب لنا على الوظائف وألحقنا بالكبار مع صغر السن، والابتداء في الاشتغال، وكان أبو المحاسن المذكور بيده حل الأمور وعقدها، ليس لأحد معه كلام في الدولة، وكان للفقهاء في أيامه حرمة تامة.
ومما حكي عنه أنه قال: كان في المدرسة النظامية ببغداد أربعة أو خمسة من الفقهاء المشتغلين، فاتفقوا على استعمال حب البلاذر لأجل سرعة الحفظ والفهم، فاجتمعوا ببعض الأطباء، وسألوه عن مقدار ما يستعمل الإنسان منه، وكيف يستعمله، ثم اشتروا المقدار الذي قال لهم الطبيب الجاهل، فشربوه في موضع خارج المدينة، فحصل لهم الجنون، فتفرقوا وتشتتوا، ولم يعلم ما جرى عليهم، وبعد أيام جاء إلى المدرسة، وأحد منهم، وهو عريان ليس عليه شيء يستر عورته، وعلى رأسه عمامة كبيرة لها عذبة طويلة قد ألقاها وراءه، فوصلت إلى كعبه، وكان طويلاً، وهو ساكت عليه السكينة والوقار لا يتكلم بشيء، ولا يعبث بشيء، فقام إليه بعض الفقهاء، وسأله عن الحال، فأخبره باستعمال حب البلاذر، وقال: فأما أصحابي، فإنهم جنوا، وما سلم منهم إلا أنا وحدي، فصار يظهر العقل العظيم والسكون، والحاضرون يضحكون منه، وهو لا يشعر بهم، ويعتقد أنه سالم مما أصاب أصحابه، وهو على تلك الحال لا يفكر فيهم ولا يلتفت إليهم.
وفيها توفي أبو سليمان داود الملقب بالملك الزاهر ابن الملك العادل صلاح الدين يوسف بن أيوب، كان صاحب قلعة البيرة التي على شاطىء الفرات، وكان يحب العلماء وأهل الفضل، ويقصدونه من البلاد، وكان الثاني عشر من أولاد صلاح الدين، وكانت ولادته سنة ثلاث وسبعين وخمس مائة، فلما توفي توجه ابن أخيه الملك العزيز ابن الملك الظاهر إلى القلعة المذكورة وملكها والبيرة بكسر الموحدة وسكون المثناة من تحت وفتح الراء، وفي آخرها هاء، وهي قلعة من ثغور الروم على الفرات بقرب سميساط.
فيها أخذت الفرنج قرطبة واستباحوها، وجاءت فرقة من التتار، فكسرهم عسكر