ولكنني لم أتغلب على عقدة ورثتها من طفولتي، فمن يسألني عن اسمي أقول (الصدّيق)، بدأت كلما دخلت مكتباً أو منزلاً أتقدم كذلك لصاحبه، فتتحرك في نفسه منذ اللحظة الأولى العقيدة الاستعمارية؛ ومما يزيده اشتباهاً في أمري أنه يجدني- عندما يصغي لحديثي- أتكلم لغة لم يتعودها حتى عند باعة العلم المبسط، فأراه عندئذ يلطف العبارات لستر العورات، ثم يودعني على الباب بأطيب التحيات ...
تكررت هذه التجربة يومين أو ثلاثة أيام، عرفت خلالها أن عملاً، حتى مثل هذا، يستحيل عليّ في مجتمع صنعه الاستعمار في كل جزئية من كيانه.
فاستأذنت من صديقي وسافرت إلى تبسة. ربما في شهر أيار (مايو) ظهر لي الجدب والقحط يسودان تحت شمس محرقة ليس فيها هوادة، تحرق أشعتها كل شيء في المنظر الذي لم يشهد منذ زمن طويل سقوط تلك الثلوج التي طالما تمرغت فيها في طفولتي.
ولكن بدا لي المنظر الاجتماعي أكثر جدباً وأفشى قحطاً، لم تبق فيه تلك الرابطة التي كان المرء يشعر بها بين القلوب والعقول المجتمعة حول قضية في جو يضفي عليها القداسة ... بل هذه القضية نفسها أصبحت كأنها ذابت وتبخرت في طوفان من كلام، إذ أصبح كل مقهى سوق عكاظ وكل مائدة فيها أصبحت منصة يخطب من حولها بما شاء ولمن شاء وكيفما شاء.
لقد فقدت الكلمة قيمتها بانتقالها من النادي أو المسجد إلى المقهى، منذ سلّمت القيادة (المعمَّمة) زمام الأمر للقيادة (المطربشة)، حتى على رأس المؤتمر الجزائري الإسلامي، الذي ذهب أول ضحية لهذا التسليم، وبدأ ظهور (الجبهة الشعبية) بفرنسا يضيف مفعوله الخاص إلى الانهيار الذي حدث بالجزائر، فأصبح كل جزائري ذا اهتمام سياسي يعلن عضويته في الحزب الاشتراكي الفرنسي، حتى بعض هيئة أركان حزب الإصلاح.