ولا أجحد أن ممثل الجمهورية الثالثة الفرنسية المحترم تدخل فعلاً في تأييد طلبي. ولم تمض إلا أيام قليلة حتى أبلغ لي الرد الذي ورد عليه بهذا الصدد: ((إننا لا نستطيع التصديق على هذا الطلب، لأن الطريق المشروع في إنجازه طريق عسكري.))
شعرت ببؤس تلك السمكة المتمردة وهي من النوع المفترس الصغير، طالما مزقت تقلباتها المتحدية خيوط الشبكة المعدة لصيد السمك الهادئ في المستنقعات السياسية ...
إنهم لا يريدون الآن اقتلاع بعض حراشف جلدها فقط، ولا اقتلاع بعض أنياب فمها فحسب ... لا بل يريدون مرة واحدة أن يلقوها في المقلاة فيقلوها ويشووها حتى تصير لقمة سائغة للآكلين.
كان الشتاء في آخره، وبدأت طبقة الجليد تذوب على أرصفة (دروكس)، وشرعت الأشجار تنزع لباسها من البرد الأبيض، وبدأت العصافير تبني العش الجديد، والفراشات الملونة تطير وتسرح وتمرح كأنها تداعب الحياة. وكان الجو عذباً هادئاً معتدلاً سعيداً بعودة الربيع. فأبقى ساعات متكئاً على حافة نافذة مشرفة على وادي (الأفر) الصغير، عندما يبرز ماؤه الشفاف من تحت أقواس الجسر قرب بيتنا، ليصير المرآة التي تنعكس على سطحها هذه الحركات السعيدة، فلا أرى شيئاً كأنني أجني على كل ما يصب ويدب في هذه الطبيعة المرفرفة، كأنني محجوب عنها بما يضطرم بين جنبي، وما يعصف بينها من عواصف هوجاء، لقد أصبحت أعيش داخل نفسي كالسجين داخل سجنه.
ولم تكن الزيارات التي تأتينا كثيرة، وإنما كان أصدقائي من (الوحدة المسيحية للشبان الباريسيين) يترددون علينا من حين لآخر بمناسبة عطلة آخر الأسبوع. ولكني بدأت أشعر على الرغم من صداقتنا، أنني أجنبي عليهم، محجوب عنهم بمشكلة الاستعمار الغريبة عنهم.