بينما يكني المثقفون عندنا كل نوع من النبات (نباتاً) وكل حشرة (حشرة).

بدأت هذه الملاحظات، عن الاختزال Schématisme الذي يطبع التكوين الفكري عندنا، تلفت نظري بالتدريج إلى الفارق الكبير بين التثقيف والتعليم.

وبدأت في هذه الفترة، أطالع بكل إمعان كتب (بلزاك)؛ لأن (أمي مورناس) كانت تحتفظ بكل إنتاجه على رف من رفوف خزانة أواني الطعام، فكانت هذه المطالعة تزيد كثيراً في معلوماتي عن حياة المجتمع الفرنسي عندما بدأت، بعد العهد النابليوني، انطلاقته في العهد الصناعي، بكل التفاصيل الحميمة التي تتسم بها الحياة الفرنسية بكبريائها وضآلتها كما تصفها (الكوميديا الإنسانية) (?).

كانت هذه المطالعة وهذه الملاحظات وهذه الموازنات حقلاً خصيباً لأفكاري الاجتماعية الناشئة، أحملها معي إلى باريس، عندما أذهب للبحث عن الشغل، فأوزعها على حلقتي من طلبة وعمال جزائريين بمقهى الهجار، وكنت أهتم بالطلبة خصوصاً، لأنهم شرعوا في امتطاء الحزب (المصالي) من أجل الوصول إلى مآربهم أو إلى الزعامة، حتى ألفت نظرهم إلى مشكلات التغيير النفسي والاجتماعي الأساسية، التي لا تتكون بدون دولة.

لقد كانت الحركة الوطنية تستهدف أهدافاً سامية؛ دون أن ترسم خطتها ودون أن تحدد وسائلها، فأصبحت تتطور في جو من الفوضى لا يصلح إلا لمن يعمل من أجل مصلحته، لذلك لم يكن لحديثي مع الطلبة والعمال أي أثر عملي، كأنني أخطب في صحراء، غير أنني كنت أجد في الحي اللاتيني السلوى من طرف أصدقائي.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015