متوجهاً بعد ذلك نحو ميناء (باري)، في عقب (الجزمة) كما يعبر الايطاليون عن بلادهم، بسبب صورتها على الخريطة.

ولكن الطريق طويل، ويقتضي تغيير القطار أكثر من مرة في أرض لا أعرف لغة أهلها، فسلمتني الصدفة الحسنة إلى بحار شاب مسافر في الاتجاه نفسه، في طريق عودته من إجازة إلى وحدته في البحرية الحربية.

واستسلمت إلى أنس رفقاء العربة الإيطاليين، وإلى سحر المنظر الطبيعي الجميل، الذي يتغير من المنطقة الجبلية في الشمال، إلى سهول إيطاليا الوسطى، ومن اللون القاتم بسبب الغابات إلى اللون الشاحب، وكلما أوغل القطار نحو الجنوب سيطر طابع الجدب والقفر على المنظر.

وصل القطار إلى إحدى محطات الطريق، فنزل عدد من الركاب للترفيه عن أنفسهم ببعض الخطوات على رصيف المحطة، أو ببعض الفاكهة المتنوعة الجميلة الجيدة المعروضة، في ذلك الفصل في كل محطات إيطاليا، فلم نلبث إلا قليلاً حتى تحركت القاطرة من دون إنذار بنصف القطار فقط، لذلك بقي بعض من بقي على الرصيف وحقائبهم في العربات التي أقلعت، ثم دعي باقي الركاب إلى العربات التي كنت في إحداها، والتي أقلعت بدورها تجرها قاطرة أخرى، ولكن الأمر بلبل جمهور الركاب فاستمر بعضهم في المرح كعادة كل جمهور إيطالي في الظروف العادية، وانتقل الآخرون إلى اعتبار الحدث من زاوية سياسية، وبدأ الطرف الأول، وجلُّه من أبناء الشمال الإيطالي المعروفين بالقامة الطويلة واللون الأحمر، يعاتب الطرف الثاني، وجلُّه من أبناء الجنوب ذوي القامة المتوسطة أو الصغيرة واللون الأسمر، عن زهده في الأمور الجدية.

لم أكن أعرف الإيطالية ولكنني أتتبع معناها لقرب اشتقاقها من اللغة الفرنسية، فكنت أتتبع ما يقال، وإذا بأحد الركاب يصرخ وهو يمسح قطرات عرق على جبينه:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015