هؤلاء الطلبة وأولئك العلماء- ومن بينهم الشيخ (التاج) والشيخ (دراز) رحمه الله- بمقهى الهجار، كما أتيح لي ولصديقي أن نساعد هؤلاء الوافدين في خطواتهم الأولى في اللغة الفرنسية، وأخذت منهم في الوقت نفسه ما يفيدني من معلومات عن الحياة في الشرق، حتى بالنسبة لشروط الانتساب إلى المعاهد الأزهرية، لأنني لم ألق البتة بفكرة الهجرة إلى الشرق عرض الحائط، فبقيت تخامرني فترة بوصفي مهندساً ينشئ هناك إحدى الصناعات، وأخرى طالباً أزهرياً يبحث في مناهج التفسير.
وافتتح كعادته في شهر أيار (معرض باريس) وفيه يعرض أصحاب المصانع الصغرى، كل ما ابتكروه تلك السنة من الأدوات المنزلية إلى أجهزة الراديو، وكنت في تلك الفترة مهتماً بشمعة توليع محرك البنزين، يهمني تعويض الشمعة التي تؤدي خدمتها شهرين أو ثلاثة، بشمعة تدوم دوام حياة المحرك.
وأعتقد، بعد ثلاثين سنة، أن المسألة لا زالت تستحق الاهتمام، غير أنني تركتها في الطريق الذي نشرت على حافته كثيراً من الأحلام.
وكانت الصحافة الوطنية تعدنا كل أسبوع بحصتنا من الفرح والابتهاج، أو من السخط والاستنكار، حسب عنوان المقال أو اسم الجريدة. فتصل هكذا أنباء الوطن كتموجات صغيرة تموت على رصيف الحي اللاتيني. وإذا بموجة عارمة تكاد، ذات يوم، تلقي (علي بن أحمد) على قفاه فوق الرصيف، فصرخ:
- يا للخيانة! .. يا للخونة! ..
بينما يلتفت إليه المارة الفرنسيون متسائلين، عن الخائن الذي يشير هذا الرجل إليه، وهو يلوح بجريدة في يده فوق الرصيف، فأتى (حمودة بن الساعي) ليخبرني بالأمر، فبادرني:
- إنها النجاسة! .. إنها النجاسة! ...