لا يرى هنا ذلك الحائط، حيث يذوب الفرد في وجود عام، ولا رقيب على سلوكه إلا ضميره، ما عدا بعض الشوارع التي أعدّتها جهات معنية لتعيد فيها العامل الجزائري إلى (وسطه) كما تقول، يعني حيث يجد نفسه في جو مصطنع يملؤه الذباب المتكدس عل بدن معلقة عند أبواب المطابخ، خاصة إلى جانب مقاهٍ أكل عليها الدهر وشرب، ويتكدس على (حصرها) (?) الرثة لاعبو (الدومينو) (?)، ويتناثر على أرضها رماد (الوجق)، ليجد نفسه يعيش فعلاً وراء حائط يفصله عن العالم.
ولكن ما عدا هذه الشوارع الملفقة تلفيقاً صريحاً من أجل إنكار ما تغير في الحياة الجزائرية منذ حقبة، فالجزائري العامل والمسافر الوافد على مرسيليا كان يجد نفسه، في حياة طليقة لا يفصلها إلى منطقتين حائط تبطنه من الناحيتين الشكوك والأحقاد، فيجد نفسه فرداً معتاداً في جمهور لا يفرض عليه تنفساً خاصاً.
كنت إذن أعيش ذلك النهار متحرراً من كل المشكلات ومن كل المسؤوليات، من كل الاعتبارات التي ترزح بها حياة المرء العادية، حتى إنني إذا ما خطرت ببالي خاطرة تمتّ بصلة إلى الواقع، كنت أطردها عني في الحين، كما نطرد ذبابة تضايقنا.
وكنت أسوغ هذا السلوك أمام ضميري، بكلمة يسمعها أحياناً من يكون ماشياً بجنبي على رصيف مرسيليا:
- إنني سأنظر ذلك عند وصولي إلى (دروكس) ..
لم نكن في الحقيقة في (دروكس) تلك الحقبة، ولكن في قرية صغيرة