فلم يبقَ أمام صاحبي المتجر المهجور إلا أن يهاجرا من المدينة بعد انتظار ليال قليلة، وظهر بتبسة وجه جديد، اسمه (باهي) على اسم صاحب المقهى المشهور.
كان (باهي) الجديد من (البسطاء) كما تعبر لغة الشعب عن الذين لا يتصرفون بعقلهم، وكان قاموسه يتضمن ثلاث صرخات متوالية تعبر عن حالاته النفسية، حسبها يتخللها من ضحك خشن أو غضب.
- ها! ... ها! ... ها! ...
فإذا سمعت هذه الصرخات ورءاك، والتفتّ تجد (باهي) يمزح معك أو غاضباً عليك دون سبب.
وعلى الرغم من بساطته هذه أو بسببها، اكتسب (باهي) شهرة خاصة لدى النساء، يقلن عنه:
- إنه فيه البركة! ...
انتقلت أخباره إلى قسنطينة، فأصبحت تدعوه الأسر اليهودية من أجل زواج بناتها، وبذلك أصبح من هذه الناحية من دون أن يشعر، منافساً للشيخ (الصادق بن خليل) في مهنة تزويج البنات العازبات.
وبينما كان الناس يعيشون هكذا حياتهم اليومية، كل على مشربه وهواه، استمرت الطبيعة في عملها الفتاك حول المدينة، وبدأت معالم القفر تضفي على ريفها الطابع الصحراوي، واستمرت رقعة الغابة تتقلص وتتقهقر من الدائرة الخضراء التي كنت ألعب فيها مع أترابي في الصغر، حتى صار من يريد الفسحة بين أشجارها يمشي مسافة طويلة.
وتغير أيضاً المنظر حول المدينة، بسبب الأبنية التي شيدت خارج السور،