وربما يعجب هنا أولئك المثقفون الذين أصبحوا لا يدركون لغة الشعب الجزائري المسلم، إنني لا أكتب هذه المذكرات من أجلهم، ولكن للشعب عندما يستطيع قراءة تاريخه الصحيح، أي عندما تنقضي تلك الخرافات التي تعرض أحياناً أفلاماً كاذبة، والتي سيكون مصيرها في صندوق المهملات مع مخلفات العهد الاستعماري.
لم يكن والدي في انتظاري، لأن وصولي هذه الساعة لم يكن متوقعاً؛ وصل بعد أن أخبره بعض أطفال الحي بوصولي، ولم يكن من عادته الابتسام أمام صبيان، فهو من الآباء الجزائريين الذين يجمدون على العموم اندفاعات أطفالهم، ولكن كان أبي يشرق وجهه ابتساماً كل مرة أعود من الخارج، ربما لأن يوم وصولي كان دائماً عيداً للأسرة.
تحدثنا طيلة العشاء عن حالتي الصحية وعن دراستي، بينما كنت متعطشاً لانطباعات والدتي عن الحج، أنتظر الساعة التي تعودتُها للحديث معها، فكانت أسعد ساعة هي تلك التي أمضيها قبل عودة أبي من فسحته الليلية في الحدىيث مع والدتي. خرج والدي تلك الليلة كعادته، وأذنت لي والدتي كعادتها بالخروج، بل أمرتني أن أخرج لأتسلى مع الأقران.
ولم يأت عمدة المدينة وحاكمها بطاقة زهور لاستقبالي، ولكنني وجدت تبسة كأنها تجمّلت لاستقبالي تلك الليلة، وجدت فعلاً أصدقائي في انتظاري بميدان الرسول وقد انضم إليهم الجار (حشيشي مختار) الذي يسكن البيت الذي تركه والداه (با عيرود) و (ما حليمة) خراباً، وهو البيت الوحيد الذي نجا في هذا الحي من يد (كانبون) الملاك الفرنسي الكبير بتبسة.
كان (با عيرود) مثل قدماء التبسيين، يقوم باود أهله مما يفلح من بقول في بستان له خارج السور، ومن حبوب لإعالة الأسرة بحقل له في عشيرته