وأما الحضارة بصورها المادية وقيمها ومبادئها فهذا الذي أيقظ أوروبا من سباتها ودفعها إلى طلب الإصلاح للواقع الفاسد الآسن المنتن الذي كانت تعيش فيه.

ويكفي أن نقول بالنسبة للصور المادية للحضارة إن أوروبا -لوقت احتكاكها مع المسلمين- لم تكن تعرف الحمامات الخاصة داخل البيوت! إنما كانت منذ العهد الروماني تستخدم الحمامات العامة سواء في تنظيف ملابسها أو تنظيف أجسادها.. إلى حد أن محاكم التفتيش التي أنشئت لمطاردة الإسلام في الأندلس بأفظع وحشية عرفها التاريخ، كانت تتعرف على بيوت المسلمين الذين تنصروا ظاهرا للفرار من التعذيب بإحدى وسيلتين: الهينمة الخافتة في جنح الليل التي كانت تدلهم على قراءة القرآن، أو العثور على حمام خاص في البيت، وكانت هذه علامة مميزة قاطعة، فما يرتكب هذه الجريمة -جريمة وجود حمام خاص في البيت- إلا المسلمون!!

أما من ناحية القيم والمبادئ فهذا -في الواقع- أهم ما أيقظ أوروبا من سباتها.

كانت أوروبا تعيش في ظلمات الإقطاع.. وما أدراك ما ظلمات الإقطاع!

أمير الإقطاعية هو الحاكم المطلق في إقطاعيته.. لا قانون إلا قانونه.. هو السلطة التشريعية والسلطة القضائية والسلطة التنفيذية كلها في آن. هو المالك لكل شيء والباقون عبيد.. إما عبيد السيد وإما عبيد الأرض يورثون ويباعون ويشترون، وينتقلون -مع الأرض- من سيد إلى سيد، لا يملكون حق الانتقال من إقطاعية إلى إقطاعية ولو كان يفصل بينهما سور واحد! عليهم كل ثقيل من التبعات وليس لهم شيء يذكر من الحقوق!

فأما الحقوق السياسية فلا نصيب لهم منها على الإطلاق ولا يفكر أحد ولا يتصور أحد، أن يكون لهم مشاركة في السياسة من قريب ولا من بعيد.. وكيف يشاركون؟ وأين هم حتى يشاركوا؟! إنهم قابعون هناك -في الإقطاعية- في بيوتهم الريفية القذرة، على استعداد أبدا لخدمة سيدهم أمير الإقطاعية، والشرف لأحدهم أن يندبه الأمير لخدمة خاصة غير بقية الأصفار الآدمية التي تمتلئ بها الإقطاعية، فذلك تمييز وتكريم أي تكريم!

طور بواسطة نورين ميديا © 2015