دعك من هذه المكابرة؛ لأن الواقع لا يسندها. وتكفي شهادة "روجر بيكون" التي قال فيها: "من أراد أن يتعلم، فليتعلم العربية"1!
ولو كان كل فضل المسلمين أنهم احتفظوا بعلوم الإغريق وثقافتهم ما احتاجت أوروبا أن تتعلم العربية، فقد كان يكفيها أن ترجع إلى أصولها الإغريقية باللغة الإغريقية، وهي لغة لم ينقطع العلم بها حتى في العصور المظلمة، فقد كانت إحدى اللغات "المقدسة"، لغات الكتاب المقدس.
وقد يكون هذا الوصف صادقًا على ما يسمى "الفلسفة الإسلامية" فقد كانت إغريقية حقا وإن لبست ملابس المسلمين! فقد كان منهج التفكير فيها إغريقيا وإن تناولت موضوعات إسلامية. وهذه -في رأيي- هي أضعف نقاط الثقافة الإسلامية على الإطلاق.
أما أن توصف الحركة العلمية والفكرية الإسلامية كلها بأنها إغريقية، لمجرد أنها استمدت من الثقافة الإغريقية عند البدء فمغالطة متبجحة لا يسندها الواقع، كما لو قلنا إن العلم الحاضر إسلامي كله ولا فضل لأوروبا فيه، لمجرد أنه استمد أصوله كلها من المسلمين! وهذه مغالطة لا يقولها أحد منا -ولو قالها لكانت مضحكة غير مقبولة- لأن الله أمرنا -إذا قلنا- أن نعدل.. ولو كان ذا قربى:
{وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} 2.
{وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} 3.
إن أهم ما أخذته أوروبا عن المسلمين كما يعترف المنصفون منهم -وما أقلهم! - لم يكن العلوم في ذاتها، وإن كانت هذه تستحق أن يشار إليها ويشاد بها، خاصة في الكيمياء والفيزياء والطب والفلك والرياضيات، إنما كان المنهج التجريبي في البحث العلمي، وهذا هو الذي يرد إليه -بحق- كل التقدم الذي أحرزته أوروبا في ميدان العلوم فيما بعد؛ لأنه شيء جديد لم تكن تحسنه من قبل؛ ولأن التقدم العلمي كان مستحيلًا بدونه.. ويبقى لأوروبا فضلها -بعد ذلك- في المثابرة والصبر والمتابعة، بينما ركن المسلمون إلى سبات عميق.