تقول الجاهلية المعاصرة إنه "يتحرر" من "القيد".
نعم! يتحرر من "القيد الإنساني" ليقع في قيود الحيوان!
فالقضية كما قلت مرة في كتاب "في النفس والمجتمع" ليست خيارا بين القيد والحرية كما يتوهم الناس لأول وهلة حين ينفلتون من الدين والقيم المصاحبة له. إنما الخيار هو بين قيد من نوع معين يصاحبه نوع معين من الحرية، وبين حرية من نوع آخر يصاحبها نوع آخر من القيود. قيد الإنسان ومعه حرية الإنسان، أو حرية الحيوان ومعها قيد الحيوان1.
الدين قيد لا شك فيه؛ لأنه التزام بما أنزل الله.. قيد على شهوات النفس وقيد على أهواء الإنسان.. ولكنه في الوقت ذاته يحرر الإنسان من ضغط الشهوات وثقلة الأرض والخضوع المذل للقوى القاهرة التي تقهر الإنسان في الأرض ممثلة في بشر يستبدون بالبشر، أو ضغوط مادية واقتصادية تسحق كرامة الإنسان.
والانفلات من الدين والقيم المصاحبة له هو "تحرر" دون شك. تحرر من القيود التي فرضها الله على الإنسان في تصرفاته، والحدود التي رسمها للناس وقال لهم: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} 2 {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} 3. ولكنه في الوقت نفسه يمسك الإنسان من خطامه، ويجره من حبل الشهوات أو من حبل الضغوط القاهرة فلا يملك ألا يستجيب!
وحين انفلت الناس في الجاهلية المعاصرة من قيد "الدين" فقد وقعوا في عبوديات لا حدود لها. سواء للحاكمين عليهم، الذين لا يحكمون بما أنزل الله، فيتخذون من أنفسهم أربابا يشرعون للناس، ويخضعونهم لهم بالسلطان القاهر، أو لشهواتهم التي لا يملكون الفكاك منها، أو لأعراف وقيم وموازين ما أنزل الله بها من سلطان، كلها تهبط بالإنسان من مكانه الكريم الذي كرمه الله به يوم خلقه، وتمرغه في الأوحال.
فهل هذه هي "الكرامة" التي يحققها الإنسان لنفسه حين يتمرد على الدين ويخرج من عبادة الله؟