ابتدعته وشكلته على حسب أهوائها- وبين اتباع العلم والخروج من الدين.

وقد اختار العلماء اتباع العلم؛ لأنهم يعرفون قدره. ويعلمون أنه أحق بالاتباع من الخرافة، فلما طردتهم الكنيسة من "الدين" كان العلم -بالنسبة إليهم- هو البديل من الدين، لا لأنه في الحقيقة بديل عنه، ولا لأنه بطبيعته يغني عنه، ولكن لأن حماقة الكنيسة وضعت الأمور في هذا الوضع.

والسبب الظاهر ليس بديلا عن السبب الحقيقي؛ لأنه يفسر فقط كيف تحدث الأشياء على النحو الذي تحدث به، ولكنه لا يفسر لماذا كانت الأشياء على هذا النحو!

فقانون السببية يفسر كيف يتحول الماء إلى بخار بالتسخين، ولكنه لا يفسر لماذا كان التسخين يحول الماء إلى بخار! فلولا أن الله خلق الماء على النحو الذي يجعله التسخين يتحول إلى بخار ما تحول!

بعبارة أخرى: إن العلم بخواص المادة يفسر لنا الظواهر التي تحدث في عالم المادة، ولكنه لا يفسر لنا لماذا كانت المادة بهذه الصورة وبهذه الخواص، ذلك أن هذه الصورة ليست هي الصورة الوحيدة الممكنة عقلا.. بل هي إحدى الصور الممكنة، وقد كان يمكن -لو أراد الله- أن تكون على صورة أخرى وذات خواص مختلفة. فالذي جعلها على هذه الصورة، وأعطاها هذه الخواص هو مشيئة الله وحدها. وهذا هو السبب الحقيقي الذي لا يغني عنه معرفة السبب الظاهر، وإلى ذلك تشير سورة الواقعة:

{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ، نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ، عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ، أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ، لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ، إِنَّا لَمُغْرَمُونَ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ، أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ، لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} 1.

وحين قال علماء أوروبا في عصر النهضة وما بعده إن السبب الظاهر بديل من السبب الغيبي، أو إن "الطبيعة" بديل عما "وراء الطبيعة" لم يكن ذلك حقيقة موضوعية ولا حقيقة مطلقة.. إنما كان "واقعا" عاشته أوروبا بسبب

طور بواسطة نورين ميديا © 2015