وحين يخاطب القرآن "الإنسان" كله، من جميع جوانبه، وفي كل حالاته، يعود إلى وضعه الفطري، فتعمل أجهزته كلها في وقت واحد، فتعود لأجهزة الإيمان بما لا تدركه الحواس حيويتها الطبيعية، فيؤمن الإنسان بالله الذي {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} 1 بلا جهد يبذله في ذلك الإيمان، بل بشعور عميق بالطمأنينة والرضا والاسترواح والسكينة التي تغمر القلوب.
{الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} 2 فتصبح لحظات القلق هي لحظات البعد عن النور الإلهي الفياض وساعات الرضا هي ساعات الاقتراب.
وأما ثقلة الشهوات التي تجنح بالإنسان إلى التفلت من أمر الله، وتؤدي به في النهاية إلى ألوان مختلفة من الشرك، فإن القرآن يرفع الإنسان عنها بتوسيع آفاقه، ورفع اهتماماته، وتوجيه طاقاته إلى جوانب الخير في الحياة. فيحدث "التسامي" أو "التصعيد" الذي يطهر النفس من الأرجاس:
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ، قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ، الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} 3.
وحين تصل النفس إلى هذه الرفعة فإنها لا تعود تستنكر القيد الرباني وتسعى إلى التفلت منه، بل تحس أنه القيد الذي يمنح الإنسان الحرية اللائقة به.. حرية الإنسان. وتعود تنفر من ذلك الهبوط الذي كانت تتشهاه من قبل، وتلمس فيه القيود الكريهة التي لم تكن تراها من قبل.. قيود الحيوان.. وعندئذ تقبل النفس على الله راضية بعبادته وحده دون سواه.
وأما الطغاة الذين يستعبدون الناس في الأرض، ويصنعون من أنفسهم