كلا! إنه يريد في حقيقة الأمر شيئا لا يقدر عليه، ويحس "بالعجز" الدائم عن تحقيقه، يريد أن يسيطر على الكون، يريد أن يقول للشيء كن فيكون!
ويعلم الإنسان في دخيلة نفسه أنه عاجز عن تحقيق ذلك، وأنه مهما أوتي من القدرة والسيطرة على بعض جوانب الوجود. فإن بينه وبين السيطرة الحقيقية التي يحلم بها أمدا لا يمكن بلوغه؛ لأن مدى قدرته محدود بحدود، ومدى عمره محدود بحدود، ومدى تمتعه -في عمره المحدود- بالصحة والقوة والنشاط والقدرة محدود بحدود!
وهكذا يشعر الإنسان بالعجز كلما شعر بالقدرة، ولا يصفو له قط الشعور بالقدرة الكاملة التي يحلم بها في كل مراحل عمره، فضلا عن أنواع العجز التي يعلم أنها مفروضة عليه لا محالة، ومن بينها الموت الذي يعجزه عن الخلود!
ومن شعور الإنسان بالعجز الدائم الذي يلاحقه حتى آخر لحظة من حياته يلتفت الحس البشري إلى الكائن الذي لا يعجزه شيء في السموات ولا في الأرض!
كل شيء يعجز عنه هو يقدر عليه ذلك الكائن الذي لا يعجزه شيء!
الخلق من العدم بادئ ذي بدء، والسيطرة المطلقة على كل شيء، والتسخير المطلق لكل شيء، والقوة التي لا يقهرها شيء وهي تقهر كل شيء, والمشيئة التي تحقق كل شيء في لمح البصر؛ لأنها تقول للشيء كن فيكون..
والخلود الأزلي الأبدي صفة يتفرد بها ذلك الكائن الذي لا يعجزه شيء.. وكل ما عداه يفنى ويزول..
عندئذ يتحول الحس إلى ذلك الكائن الذي قدرته لا تحد.. فيهتدي، ويعرف الله على حقيقته ويعبده حق عبادته، أو يضل فيظن ذلك الكائن هو الشمس أو القمر أو النجم أو الروح القاطن في الوثن الذي ينحته بيديه.. ولكنه يعلم في كل حالة أنه هناك. أنه موجود. وأنه إله، وأنه معبود، فيتقدم إليه بالشعائر، ويلتزم نحوه بلون معين من السلوك.
رغبة أخرى من رغبات الإنسان لا تقل عمقا في نفسه عن رغبة السيطرة ورغبة الخلود، يحس فيها الإنسان بالعجز المطلق الذي لا تحده حدود، تلك هي رغبته في استكناه الغيب!
الرغبة في معرفة الغيب قديمة قدم الإنسان على الأرض، وستظل تصاحبه طالما كان هناك بشر يعيشون في الأرض!