العام، والدقة العجيبة في مسار الظل وتغيره يوما عن يوم حتى يعود إلى نفس مكانه بعد عام كامل من كل يوم.. ومن هنا نبتت فكرة المزاولة ثم فكرة الساعة وكان يرى الدقة في مسار القمر وتغير أوجهه ليلة بعد ليلة حتى يعود إلى نفس وضعه بعد شهر كامل من كل يوم يرصد فيه.. وكان يرى دورة النبات من البذرة المغمورة في الأرض. إلى الشطأ الذي يخرج منها. إلى الساق والأغصان والأوراق، إلى الزهرة والثمرة والبذرة في نهاية المطاق.. وكان يرى الزهرة الملونة تتكون من خيوط دقيقة ومساحات دقيقة من اللون يعجز الرسام الماهر أن يرسمها بهذه الدقة، ويعجز عن تكرارها بنفس الصورة في رسم آخر فضلا عن ألوف وملايين؛ ولكنها في الطبيعة تبرز ملونة بهذه الدقة في كل زهرة دون جهد مبذول. ويرى ريشة الطائر الملون مكونة من عدد لا يحصى من الخطوط والخيوط، كل يحمل نصيبا دقيقا من اللون يعجز الرسام أن يرسم مثله في دقته، ثم يحدث من تجمعها في الريشة ذلك المنظر البهيج الذي يروع النظر ويروع الحس. وكان يرى دقة دخول الليل في النهار حتى يتلاشى الضوء، ودقة دخول النهار في الليل حتى يتلاشى الظلام.. وكان يرى أشياء وأشياء توقظ فطرته إن كانت غافلة فيتساءل: هل يمكن أن توجد هذه الدقة العجيبة كلها بغير موجد؟ ثم يروح يتطلع إلى الموجد. فيهتدي إلى أنه حقيقة لا تدركها الأبصار فيؤمن بالله على بصيرة، ويعبده على بصيرة، أو يضل فيتصور أنه الشمس أو القمر أو النجوم أو الروح الساكنة في التمثال الذي ينحته بيديه..ولكنه في كل حال يعلم أنه لا بد من خالق خلق هذا الوجود بتلك الدقة التي يلحظها في تلك الكائنات حوله.
ثم مد الإنسان ببصره إلى داخل هذا الكون المعجز عن طرق الأدوات التي استحدثها فرأى عجبا لم يكن يخطر له على بال! رأى هذا الكون العجيب كله مكونامن ذرات متناهية في الدقة لا تراها العين المجردة، إنما ترسمها الأدوات التي استحدثها الإنسان. في صورة شمس تدور حولها كواكب على ذات النمط الذي تتكون منه المجموعة الشمسية ولكن في دقة متناهية لا يدركها الحس. وفي كل قطعة صغيرة من المادة ملايين وملايين من هذه الذرات متراكبا بعضها مع بعض، ومشدودا بعضها إلى بعض، بذات القوة التي تمسك الكون كله بعضه إلى بعض، وتسمح له بالحركة الدائبة دون أن يصطدم أو يتناثر، والتي أطلق عليها اسم "قوة الجاذبية".