مقابل هذا العرض السخي كله طلب هرتزل منح اليهود وطنا قوميا لهم في فلسطين.
وكان من المتوقع من أي رجل يحرص على الدنيا، ويحرص على السلطان المستبد1 أن يتقبل العرض ويستجيب للمغريات. ولكن السلطان المسلم رفض ذلك كله، وقال لهرتزل قولته الشهيرة "إن هذه ليست أرضي ولكنها أرض المسلمين، وقد رووها بدمائهم ولا أملك أن أتنازل عن شبر واحد منها"2.
عندئذ وقعت الواقعة، ودبر اليهود لخلع السلطان عبد الحميد. ثم لإزالة الخلافة كلها على يد اليهودي المتمسلم كمال أتاتورك.
وكانت الوسيلة لكل ذلك هي "القومية".
فاليهود المتمسلمون، المعروفون بيهود الدونما، الذين هاجروا من المغرب واستوطنوا البلقان، كانوا هم المنظمين الحقيقيين لحزب الاتحاد والترقي، الذي نادى بالقومية الطورانية "وهي قومية الأتراك في جاهليتهم قبل دخولهم في الإسلام" ورفع شعار الذئب الأغبر "وهو معبود الأتراك في جاهليتهم" كما نادى بضرورة "تتريك" الدولة، أي: جعل المناصب فيها وقفا على الأتراك وحدهم، ومعنى ذلك -كما حدث بالفعل- أن يحس "العرب" أنهم مظلومون في ظل الحكم التركي وأنهم مهضومو الحقوق.. عندئذ تلقفتهم الصليبية -حليفة اليهودية في الحرب ضد الإسلام- فأرسلت إليهم "لورنس" ليؤجج فيهم روح "القومية العربية" ردا على القومية الطورانية.. ويؤلف "الثورة العربية الكبرى" ضد دولة الخلافة!
وببساطة تم الأمر.. في غفلة من "المسلمين"!
يقول التاريخ إن أول من نادى بالقومية العربية هم نصارى لبنان وسوريا وانضم إليهم "المسلمون" الذين تربوا في مدارس التبشير.. ثم انضم إليهم المستغفلون من المسلمين الذي لم يجدوا تعارضا بين الإسلام والعروبة على أساس أن العروبة هي عصب الإسلام وأن العرب هم الذين حملوا الإسلام إلى كل البشرية!
والنصارى في لبنان وسوريا كانوا جزءا من أدوات أوروبا لإزعاج "الرجل المريض" وإرباكه، بغية تسهيل القضاء عليه وتوزيع تركته بين المتربصين