إنما جعل الله الناس شعوبا وقبائل ليتعارفوا. يتعارفوا كما يتعارف بنو الإنسان؛ لأن الخطاب في الآية كان للناس: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ..} لا للوحوش ولا للأفاعي ولا للحشرات! ثم قرر الله قاعدة التعارف التي تليق ببني الإنسان حين يتعارفون. وهي التقوى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} وهي الكلمة الجامعة لكل ما في الحياة الإنسانية من معاني الخير.
ولكن الجاهلية الأوروبية ما كان لها أن تهتدي إلى هذه المعاني وهي ترفض أصل الهدى ومنبعه، وهو الإسلام، ولو اهتدت إلى شيء من تلك المعاني لاستصغرت الأفق الذي تدور فيه القومية والوطنية وأحست نحوه بالازدراء! ففي اللحظة التي تحس أن الرباط الحقيقي الذي يربط "نفسا إنسانية" بنفس أخرى إنسانية ليس هو المصالح المادية, ليس هو الأرض والكلأ والمتاع الحسي, وليس هو الأمور
التي لا اختيار للإنسان فيها من الأرض والمولد واللسان والدم..إنما هو "المشاعر" التي ميزت الإنسان من لحظة مولده عن سائر المخلوقات من دونه، وهي العقيدة الواعية في الله، والقيم المتعلقة بالعقيدة من نظافة سلوكية مع كل الناس، وحب في الله وبغض في الله.. في اللحظة التي ترتفع فيها إلى ذلك المستوى ستحس على الفور بأن ما تمارسه القوميات والوطنيات هبوط لا يليق "بالإنسان"! ونكسة إلى الوراء في ميزان "الإنسانية" وليس تقدما إلى الإمام.
وعلى الرغم من أن هذه الجاهليات قد حاولت أن تستعير من الإسلام رقعة ترقع بها ثوبها الخلق، فيما يسمى بحركة الإصلاح الديني، فإن رفضها الأساسي لأصل الهدي وقاعدته الحقيقية قد جعل هذه الرقعة تضيع ضياعا كاملا في ذلك الثوب.. وسرعان ما بليت الرقعة كما بلي الثوب من قبل، وألقى صاحب الثوب ثوبه البالي كله، وخرج من الدين جملة، واستبدل به قوميات علمانية لا صلة لها بالدين، أقصى ما يتسع صدرها له أن تتسامح في وجوده، فلا تنبذ أصحابه ولا تطاردهم، وإن كانت كثيرا ما يضيق صدرها به وبهم، فتلفظهم لفظا وتلقي بهم خارج الساحة، إن لم تفعل ما هو أسوا من ذلك كثيرا، فتلقيهم في غياهب السجون!
على أن الشر الذي نجم من القوميات والوطنيات لم يكن شرا شخصيا ينتهي أمره بهبوط أصحابه عن إنسانيتهم وقبوعهم في داخل حدودهم وهم متشحون بذلك الهبوط.