والإنسانية، إذا أفقه هو قومه، والرقعة الضئيلة من هذا العالم التي يسكن فيها قومه.. وبدلا من أن تكون قيمه "معاني" رفيعة من التي تقاس بها رفعة الإنسان، ويتميز بها إنسان عن إنسان. إذا قيمه هي مصالح قومه، ومصالح هذه الرقعة الضئيلة من الأرض التي يسكن فيها قومه، وهي مصالح مادية يتعارك عليها مع غيره من الهابطين مثله إلى دركه، "كالمصالح" التي يتعارك عليها الحيوان، من أرض وكلأ إذا كان من الضعاف أكلة العشب، أو أرض وصيد إذا كان من الوحوش التي يفترس القوي منها الضعيف!
ثم إنها تقيم تجمعها على الأمور التي لا خيار فيها للإنسان.. من المولد في أرض معينة. والكلام بلغة الأرض التي ولد فيها، والمصالح المادية القاهرة. في الوقت الذي تنبذ فيه كل الأمور التي يكون للإنسان فيها الخيار، والتي يتفاضل فيها إنسان على إنسان بناء على ذلك الخيار.. تنبذ العقيدة في الله, التي يختار فيها الإنسان بين الإيمان والكفر، ويتفاضل الناس فيها على أساس الإيمان والكفر.. وتنبذ القيم المنبثقة من العقيدة، وهي نظافة المشاعر ونظافة السلوك مع الأصدقاء والأعداء سواء.. أي: الصدق مع كل الناس، والأمانة مع كل الناس، والعدل مع كل الناس، ثم الحب في الله والبغض في الله "لا للمصالح الأرضية" أي: الحب لمن هو جدير بالحب بالفعل بالمقاييس الإنسانية الرفيعة، والبغض لمن هو جدير بالبغض حقا بتلك المقاييس، وهي القيم التي يختار فيها الإنسان بين الالتزام وعدم الالتزام.. أي: بين الرفعة والهبوط..
انظر في مقابل ذلك هذه الآية الكريمة من القرآن:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} 1.
فكون الناس شعوبا وقبائل، هذه حقيقة واقعة ملموسة، وهي من إرادة الله؛ لأنه هو الذي "جعل" الناس كذلك، ولكن الله لم يشأ سبحانه أن ينحبس الناس في داخل شعوبهم وقبائلهم وينغلقوا في حدودها وهو ما تفعله القوميات والوطنيات بادئ ذي بدء، ولا أراد للناس أن يلتقوا من داخل الإطار الذي تشكله شعوبهم وقبائلهم في عراك مع الشعوب والقبائل الأخرى، وهو ما تفعله القوميات والوطنيات بعد ذلك أي: بعد انحسارها في داخل حدودها، وبحثها عن "مصالحها القومية".