استقلالا في شئونها وتشتتا، حتى إذا اضمحلت النصرانية نفسها في أوروبا قويت العصبية القومية والوطنية، وكان الدين والقومية ككفتي ميزان، كلما رجحت واحد طاشت الأخرى، ومعلوم أن كفة الدين لم تزل تخف كل يوم، ولم تزل كفة منافستها راجحة، وقد أشار إلى هذه الحقيقة التاريخية الإنجليزي المعروف لورد لوثين -السفير البريطاني في أمريكا- في خطبته التي ألقاها في حفلة جامعة عليكرة في يناير سنة 1938م".

وربما يعجب الإنسان لأول وهلة حين يعرف أن "حركة الإصلاح الديني" هذه كانت نابعة من مؤثرات إسلامية، ومع ذلك لم تؤت الثمار الطيبة التي كان يمكن أن تنشأ عنها. ولكن العجب يزول حين يدرك الإنسان أن أوروبا -وهي تقتبس جزئيات من الحياة الإسلامية- كانت ترفض الإسلام ذاته بدافع العصبية الصليبية، ومن ثم يضيع الخير الجزئي الذي اقتبسته من الإسلام!

ولسنا هنا بصدد رصد المؤثرات الإسلامية التي أنتجت حركة الإصلاح الديني في أوروبا. ويكفينا أن نشير إلى كلمة ألفارو القرطبي التي نقلناها في الفصل السابق عن تأثر شباب النصارى في الأندلس بالوجود الإسلامي هناك، إلى حد أنهم كانوا ينظرون بزراية إلى كتب اللاهوت المسيحي ويعتبرونها غير جديرة بالالتفات، ولنا أن نتوقع أن تأثيرات مشابهة -ولو كانت على درجة أقل- قد سرت في أوروبا عند احتكاكها بالمسلمين سواء في الحروب الصليبية أو في الاحتكاك السلمي حين بدأت أوروبا ترسل مبعوثيها إلى مدارس المسلمين في الأندلس والشمال الإفريقي وصقلية وغيرها من البلاد الإسلامية ليتعلموا العلم، حيث لم يكن هناك علم في الأرض إلا عند المسلمين.

وقد رأى النصارى عند احتكاكهم بالمسلمين عالما مختلفا تمام الاختلاف. عالما لا كنيسة فيه ولا "بابا" ولا رجال دين.. إنما فيه علماء يتفقهون في الدين, وغالبا ما يتفقهون في علوم أخرى مع العلوم الدينية كالطب أو الفلك أو الرياضيات.. إلخ.. بلا تعارض بين تفقههم هنا وهناك.. وليس لهم -مع تفقههم- كهانة على الناس ولا سلطان إلا توقير العلماء من أجل علمهم فحسب، ولا وساطة لهم بين الناس وبين ربهم الذي يعلمهم أنه لا وسطاء ولا شفعاء عنده، وأنه ما على العباد إلا أن يدعوه، فيستجيب لهم بلا وسيط:

{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 1.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015