يحكم بعض سلوكهم الشخصي، ولكنه عاجز عن حكم الواقع العملي للناس، يستكبر عنه الأباطرة فيحكمون بالقانون الروماني ولا يحكمون بشرائع ذلك الدين، لا يستوي الدينان في أثرهما على الواقع، ولا في قدرتهما على تجميع الناس في صورة "أمة" موحدة:
{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} 1.
والسبب الثاني: أن العقيدة حين وصلت للإمبراطورية الرومانية -أو حين فرضها عليها الإمبراطور قسطنطين- لم تكن على صورة واحدة. فقد كانت قد انقسمت إلى مذاهب ومعتقدات شتى- لا في الفروع كما هو شأن المذاهب الإسلامية- إنما في أصل الاعتقاد، بحيث لا يمكن أن يلتقي أصحاب مذهب ومذهب على شيء، فالدين قد انحصر في العقيدة، والعقيدة أصبحت عقائد مختلفة متعارضة ومتعادية.. ويكفي نموذج واحد من هذا التعارض والعداء، هو ما كان بين الدولة الرومانية وأقباط مصر.. فقد كانوا كلهم "مسيحيين" ولكن الخلاف بين مذهب الدولة الكاثوليكي ومذهب الأقباط الأرثوذكسي كان من السعة وعدم الالتقاء بحيث كان الأقباط يسامون الخسف والعذاب من أجل عقيدتهم، حتى ليستخفون بها عن أعين الدولة، ويقام في الكنيسة الواحدة عبادتان مختلفتان: إحداهما علوية ظاهرة والأخرى سفلية سرية، كما كان الحال في كنيسة "مار2 جرجس" حيث كانت تقام صلاة علنية على مذهب الدولة في أروقة الكنيسة العلوية الظاهرة، وصلاة أخرى سرية في سراديب تحتية خفية، يختفي فيها الأقباط عن عيون الدولة الرومانية التي تتعقبهم بالعذاب والإرهاب.. وشأن هذا الخلاف أن يمزق ويفرق لا أن يجمع الصفوف ويوحد البناء.
وصحيح أن أوروبا في مجموعها كانت كاثوليكية لعدة قرون، وكان اتحادها في المذهب عاملا من عوامل تجمعها، كما سنبين بعد، ولكن حجم هذا التجمع وتأثيره في حياة الناس كان يمكن أن يكون أكبر من واقعه الذي كان عليه، لو كان في حس أصحابه أن دينهم واحد في كل الأرض، وأنهم ليسوا مجرد قطاع