الجيوش وانكساراتها، ونشأة الدول وزوالها مجردة عن القيم المصاحبة لها، وعن مجرى السنن الربانية فيها، إنما يدرس بادئ ذي بدء لتتبع حياة "الإنسان" في حالتيه: حالة الهدى وحالة الضلال، وما يجري خلال كل من الحالتين من أحداث، ونتائج تترتب على الأحداث، مضبوطة بالمعيار الذي لا يخطئ، معيار السنة الربانية الحتمية التحقيق ...

و"الإنسان" ابتداء هو ذلك المخلوق الذي خلقه الله من قبضة من طين الأرض ثم سواه ونفخ فيه من روحه، لا "الحيوان" الذي ابتدعه دارون، ولا "المادة" التي زعمها التفسير المادي للتاريخ.. ومقياس علوه وهبوطه ليس هو الإنتاج المادي والعمارة المادية للأرض:

{كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} .

ولكنهم كانوا جاهليين؛ لأنهم رفضوا الهدي الرباني، وأصابهم في النهاية ما يصيب الجاهلية من الدمار، على الرغم من كل القوة التي يملكونها، ومن إثارة الأرض وعمارتها..

إنما مقياس علو "الإنسان" أو هبوطه هو مقياس "الإنسانية" ... مقياس التزامه بالهدي الرباني الذي يحقق -وحده- إنسانية الإنسان، والتزامه بمقتضيات الخلاقة الراشدة، أي: عمارة الأرض بمقتضى المنهج الرباني لا بأي منهج سواه.

وحين يتحقق هذا الوعي التاريخي -لا في صورة فلسفية ذهنية تجريدية- ولكن في صورة وعي حركي واقعي, يكون هذا عونا كبيرا للإنسان الراشد، يوجهه إلى السلوك الناضج المستقيم، الذي يتحقق به الوجود الأعلى للإنسان.

تلك عقلانية الإسلام.. عقلانية سليمة ناضجة تمثل الرشد البشري في أعلى حالاته.

عقلانية تعطي العقل مكانه اللائق به، بلا إفراط ولا تفريط.. فلا هي تغالي في تقدير قيمة العقل فتقحمه فيما ليس من شئونه أو تجعله المرجع الأخير لكل شيء حتى الوحي الرباني، ولا هي تبخسه قدره فتمنعه من مزاولة نشاطه في ميادينه الطبيعية التي يصلح لها ويحسن العمل فيها.

عقلانية تكل إلى العقل مهام خطيرة وواسعة.. تكل إليه مهمة حراسة الوحي

طور بواسطة نورين ميديا © 2015