وفي الجاهليات القديمة كلها كان الناس يؤمنون بأن الله هو الخالق، ولكنهم يشركون معه آلهة أخرى يضفون عليها بعض صفات الألوهية، أما في قضية الشتريع فكان كبراؤهم يتنكبون الطريق، فيعطون لأنفسهم حقا من الحقوق المتعلقة بالألوهية -هو حق الحاكمية- فيشرعون بغير سلطان من الله، ويجعلون من أنفسهم أربابا مع الله، وأما المستضعفون فيخضعون لهؤلاء الأرباب المزيفين بحكم ما في أيديهم من السلطان القوي, فيعطونهم حق التشريع، ويستعبدون أنفسهم لهم بالخضوع لما يشرعونه من تشريع.. فيشترك الذين استكبروا والذين استضعفوا في شرك العبادة، ثم ينقسمون بعد ذلك إلى سادة وعبيد، السادة يملكون ويحكمون، والعبيد لا يملكون ولا يحكمون.. إنما يقع عليهم الذل والهوان والضياع والبؤس كشأن كل جاهلية في الماضي.. وكل جاهلية آتية إلى قيام الساعة.

أما الجاهلية المعاصرة فقد استكبرت استكبارا من نوع آخر فنفت وجود الله أصلا، وزعمت أن الطبيعة أو المادة هي الخالق الأزلي الأبدي ذو السلطان. ولكنها في قضية التشريع سارت على ذات النمط الذي سارت عليه كل جاهلية من قبل، فاستأثر بالتشريع ذوو السلطان، وخضع لهم العبيد، فاستوى بذلك عهد الرق وعهد الإقطاع وعهد الرأسمالية وعهد الشيوعية على خلاف في الصورة لا يقدم ولا يؤخر كثيرا في واقع الأمر1.

هذا هو الشق الأول من قضية التشريع المتعلق بمقام الألوهية، أما الشق الآخر فهو متعلق كذلك بقضية الألوهية ولكن من جانب آخر.

كان الشق الأول من القضية: من الذي يحق له أن يشرع، الخالق أم المخلوق؟ أما الشق الآخر فهو: من الذي يحق له أن يشرع، العليم الخبير أم الذين لا يعلمون؟

والإنسان -في الجاهلية الأخيرة خاصة- يزعم أنه هو العليم الخبير، ومن ثم فهو الذي يحق له أن يضع التشريع.

وبصرف النظر عن أن الأصل في القضية هو الاستكبار عن عبادة الله فلننظر في هذا الإنسان الذي يزعم أنه هو العليم الخبير كيف يعالج شئون حياته في معزل عن منهج الله!

طور بواسطة نورين ميديا © 2015