فهناك أمور لا يستطيع العقل من ذات نفسه أن يصل إليها؛ لأنها ليست في محيط تجربته، ولا تستطيع الأدوات التي يحصل بها المعرفة وهي أدوات الحس أن تصل إليها؛ لأنها خارجة عن نطاق المحسوس، وإن كان في إمكان العقل أن "يعقلها" حين تبين له؛ فهذه تلقن للعقل تلقينا عن طريق الوحي، ويكون دور العقل فيها أن يعقلها لا بطريق التجربة المباشرة ولا بطريق الحس، ولكن عن طريق التيقن من صدق الخبر وصدق المخبر، وهو مدعو -كما أسلفنا- إلى القيام بعملية التيقن هذه بكل الوسائل التي يملكها.. وهي مؤدية إلى الغاية الصحيحة حين يستقيم العقل على الطريق.

وهنا نقطة مهمة في الموضوع.

فالعقل المجرد عن الهوى، المتمحض لتمحيص الحقائق, المنزه عن كل شائبة تشوب التفكير أو تشوب الحكم وهم توهمته الفلسفة الإغريقية، كما توهمته من بعدها كل عقلانية بالغت في تقدير دور العقل وتقدير قدراته، والواقع البشري الطويل يشهد بأحد أمرين أو بهما معا في الحقيقة: إما أن هذا العقل -في صورته المجردة تلك- لم يوجد قط في واقع الأمر، وإما أن البشرية لا تحكم عقلها في جميع أحوالها. وكلا الأمرين صحيح! فلا هذا العقل المطلق موجود عند أحد من البشر العاديين ولا الفلاسفة ولا المفكرين، ولا البشرية تخضع لنداء العقل "على فرض صحته" وتصيخ إليه! إلا من رحم ربك!

والدليل -العقلي- على الأمر الأول، أنه لا يكاد ينطبق عقلان من عقول البشرية في تاريخها الطويل كله على تصور واحد بجميع تفصيلاته، ولو كانت العقول -حتى عقول الفلاسفة والمفكرين- بالصورة الوهمية التي تصورها العقلانية لتلاقت وتطابقت؛ لأن الحق لا يتعدد.

والدليل -العقلي كذلك- على الأمر الثاني هو هذا الجنوح الدائم والتخبط الذي تمارسه البشرية، وتلك الحروب المجنونة، وذلك الاتباع الجنوني للهوى والشهوات، ولو كانت البشرية تصيخ لنداء العقل في جميع أحوالها ما جنحت ولا تخبطت ولا أصابها الجنون!

إنما الحق -الذي تشير الدلائل كلها إليه- أن العقل -في خارج ميدانه الأصيل- أداة طيعة لمن يسيطر عليه! فإذا سيطرت عليه الروح المهتدية استقام منطقه واستقام تفكيره، وأصبح خادما أمينا للهدي يسخر طاقاته كلها في خدمته، وإذا سيطرت عليه الروح الضالة، أي: سيطر عليه الهوى

طور بواسطة نورين ميديا © 2015