على مزيد من أسرار الكون زادوا بعدا عن الله! أو كما يقول جوليان هكسلي في كتابه "الإنسان في العالم الحديث": إن الإنسان كان يعبد الله من قبل في عصر العجز والجهل بسبب عجزه وجهله. أما الآن وقد تعلم وسيطر على البيئة فقد آن له أن يحمل على عاتق نفسه ما كان يلقيه من قبل في عصر العجز والجهل على عاتق الله. ومن ثم يصبح هو الله!
ولم تكن الفتنة هي غرور الإنسان بنفسه وظنه أنه مستغن عن الله فحسب1, بل كانت بالإضافة إلى ذلك فتنة بالعلم وبالمنهج التجريبي، فأصبحت التجربة الحسية المعملية هي "المعيار" الذي تقاس به "حقيقة"كل شيء، ويرد إليه "صدق" كل شيء! فما أمكن إثباته عن طريق التجربة المعملية فهو الموجود على الحقيقة، وهو الموثوق بصدقه, وما لا يمكن إثباته عن هذا الطريق فهو إما شيء لا وجود له وإما شيء ساقط من الحساب، ودخلت في هذا القبيل قضية الألوهية بكاملها، بكل ما حولها من وحي ورسل وكتب وبعث ونشور وحساب وجزاء.. أو باختصار: قضية الإيمان2.
وإذا كانت عقلانية عصر النهضة وما بعدها قد أغلقت كل منافذ المعرفة إلا العقل، ولكنها تركته يسرح حيث يشاء، ويشطح كيف يشاء فإن "العقلانية التجريبية" التي سيطرت على الفكر الأوروبي منذ القرن التاسع عشر، قد أغلقت كل منافذ العقل إلا التجربة والحس! وتلك هي اللعنة التي نجا منها الفكر الإسلامي الأصيل3 وقت أن كان المسلمون مستقيمين على نهج الإسلام الصحيح.
لقد كان المسلمون -كما بينا- هم الذين أنشئوا المنهج التجريبي في البحث العلمي. ولكنهم أدركوا -بداهة- أنه ليس كل شيء يدخل المعمل للتجربة! إنما الذي يصلح لذلك هو "المادة" و"الجسم" ولم يتوانوا هم في إدخال المادة والجسم معمل التجربة, فتقدمت الفيزياء والكيمياء والطب على أيديهم تقدما يعتبر بالنسبة إلى وقتهم فتوحات.
ولكنهم -فيما عدا القلة الشاذة التي تأثرت بالفكر الإغريقي- لم يغلقوا