ولم يشعروا كذلك أن البحث عن هذه السنن من أجل عمارة الأرض مانع لهم من إخلاص العبادة لله؛ لأنه لا تعارض في الحقيقة. والله يقول لهم:
{وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} 1.
ويقول لهم:
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} 2.
فالمشي في مناكب الأرض والأكل من رزق الله -المؤدي إلى عمارة الأرض- يصحبه في التوجيه الرباني التذكير بالآخرة، وواجب إخلاص العبادة لله من أجل النشور, يوم يحاسب الناس على ما عملوا في الحياة الدنيا، فلا العمل من أجل الحياة الدنيا مانع من إخلاص العبادة وتذكر النشور، ولا تذكر النشور مانع من عمارة الأرض، وهكذا يتوازن "الإنسان" بين مطالب الجسد ومطالب الروح, ومطالب الدنيا ومطالب الآخرة.. بل هكذا في الواقع يصبح الإنسان إنسانا على الحقيقة لا حيوانا في صورة إنسان كما هو في الجاهلية المعاصرة.
إنسان يسعى بكل فاعليته في واقع الأرض لعمارتها والهيمنة عليها والإنشاء والتغيير فيها بما يحقق معنى الخلافة، وهو في الوقت ذاته محكوم "بالقيم" المرتبطة بيوم النشور، النابعة كلها من إخلاص العبادة لله، ونبذ الأرباب المزعومة كلها، المؤدية إلى عبادة الشيطان من سبله المتعددة:
{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} 3.
أما في الجاهلية المعاصرة فقد سارت الأمور في طريق آخر ...
ذلك أن أوروبا استنبتت المنهج التجريبي الذي أخذته من المسلمين، في أرض سبخة يملؤها العداء للدين والفرار من الله بدلا من الفرار إليه:
{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ، وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ} 4.
وكانت النتيجة أن أصبح المنهج التجريبي فتنة لأوروبا، كلما فتح عينيها