"الطبيعة" وما سموه "ما وراء الطبيعة" بحيث يمتنع عليك الإيمان بهذه وتلك في آن واحد كما توهمت عقلانية ما بعد النهضة في أوروبا، نتيجة أن ما وراء الطبيعة في ظل السيطرة الكنسية والحجر على العقل كان ينفي الأسباب الظاهرة أو لا يعول عليها في تفسير أمر من أمور الكون، وأن اكتشاف "السبب الظاهر" جاء في جو من العداء للدين والكنيسة، فوضع -من ثم- مناهضا ومعاديا لما وراء الطبيعة، بالإضافة إلى أن القوم هناك ظلوا -في ظل الإيمان بما وراء الطبيعة على الطريقة الكنسية- في جهل مطبق بكثير مما يحيط بهم في هذا الكون، بينما جاء اكتشاف السبب الظاهر في وسط معلومات عن هذا الكون تبهر العقول!
كلا! لم يفتن المسلمون باكتشاف السبب الظاهر كما فتنت أوروبا في جاهلية ما بعد القرون الوسطى، المظلمة عندهم، بل ظلوا يكشفون كل يوم جديدا من أسرار هذا الكون ويحققون به تسخيرا جديدا لطاقات السموات والأرض، المسخرة من الله أصلا للإنسان، والتي يحتاج تحقيق تسخيرها من قبل الإنسان إلى جهد عقلي يتعرف به على السنن الربانية وجهد عضلي لتحويل المعرفة النظرية إلى واقع.
{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} 1.
{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 2.
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} 3.
ولم يتصور المسلمون في بلاهة تلك الجاهلية "أنه ليس ثمة داع أو فائدة من الصلاة إلى الإله صانع هذه الساعة الضخمة الكونية" لمجرد أنهم عرفوا سرا من أسرارها، بل أحسوا -كما بينا من قبل- أن العلم نفحة ربانية يمن الله بها على عباده، فينبغي أن يشكروه عليها بإقامة الصلاة لا بقطعها، وإدامة التعبد والخشية لله، كما عرفوا أنهم مهما تعلموا من أمور الكون فعلمهم قليل، وأنهم في فقر دائم إلى الله واحتياج:
{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 4.