الحياة. بل إن مؤثرات أخرى كثيرة من مؤثرات الحضارة الإسلامية بعثت باكورة أشعتها إلى الحياة الأوروبية، فإنه على الرغم من أنه ليس ثمة ناحية واحدة من نواحي الازدهار الأوروبي إلا ويمكن إرجاع أصلها إلى مؤثرات الثقافة الإسلامية بصورة قاطعة، فإن هذه المؤثرات توجد أوضح ما تكون وأهم ما تكون. في نشأة تلك الطاقة التي تكون ما للعالم الحديث من قوة متمايزة ثابتة، وفي المصدر القوي لازدهاره أي: في العلوم الطبيعية وروح البحث العلمي"1.
ويطول بنا الاستطراد لو رحنا نحصي بالتفصيل ما أخذته أوروبا في بدء نهضتها من الإسلام والمسلمين، ولكنا نعود إلى موضوعنا الأصيل فنقول إن أوروبا أخذت ما أخذت ولكنها رفضت أن تأخذ الإسلام ذاته عقيدة ومنهج حياة، وعادت إلى الجاهلية الإغريقية والرومانية تستمد منهما بدلا من الدين الكنسي الذي لفظته، والدين الصحيح الذي رفضت بدافع العصبية أن تدخل فيه، ومن ثم عادت -كما قلنا- إلى العقلانية اليونانية بزيادة انحراف جديد هو النفور من الدين والسعي إلى إخراجه من مجالات الفكر والحياة.
لقد كانت الجاهلية الإغريقية الرومانية وثنية خالصة في واقع حياتها, ولكن "المفكرين" و"الفلاسفة" فكروا في الله سبحانه وتعالى، وحاولوا تصوره على قدر ما اجتهدت عقولهم، فاهتدوا إلى وحدانيته وكماله وجلاله، ولكن تشعبت بهم الظنون في متاهات لا قرار لها حين أخذوا يصفون كنه هذا الكمال وهذا الجلال، كما مر بنا من تصور أرسطو.
أما جاهلية عصر الإحياء وعصر النهضة فقد سخرت "عقلها" في كيفية الاستغناء عن الله، وإخراج موضوع الألوهية من ميادين الفكر والحياة واحدا إثر الآخر.
كان "التفكير الحر" معناه الإلحاد! ذلك أن التفكير الديني معناه الخضوع للقيد الذي قيدت الكنيسة به العقل وحجرت عليه أن يفكر، فمعنى الحرية الفكرية هو تحطيم ذلك القيد الذي يغل العقل من التفكير، ولم يكن أمام أوروبا بعد أن رفضت الإسلام إلا ذلك السبيل الواحد إلى الحرية الفكرية.. وهو الخروج على الدين!