انحرافاتها ... مع زيادة انحراف جديد.. هو النفور من الدين ومحاولة إبعاده عن كل مجال من مجالات الحياة.
والحقيقة أن الحياة الأوروبية في تلك الفترة تستلزم نظرة فاحصة تقف على التيارات والعوامل المختلفة التي كانت تمور في كيانها، والتي تمخضت فيما بعد عن الصورة الحالية "للحضارة" الغربية.
ولقد أخذت أوروبا في نهضتها شيئا كثيرا من الإسلام والمسلمين، ورفضت في الوقت ذاته أن تعتمد الإسلام دينا وعقيدة ومنهج حياة -كما بينا في الفصل السابق- وكان من جراء ذلك آثار بعيدة المدى في الحياة الأوروبية إلى وقتنا الحاضر ...
فقد صحت أوروبا من غفوتها الطويلة بالاحتكاك الحربي والسلمي بالمسلمين في الشرق والغرب.
وتزعم أوروبا أنها لم تأخذ من المسلمين إلا التراث الإغريقي الذي كانت قد أضاعته في عصورها المظلمة فوجدته محفوظا عند المسلمين فاستردته، وأقامت نهضتها على أساسه.
وفي هذا الزعم شيء قليل من الحق وشيء كثير من المغالطة التي لم ينج منها إلا عدد قيل من كتاب أوروبا المنصفين.
فأما أن التراث الإغريقي الذي فقدته أوروبا في عصورها المظلمة كان محفوظا عند المسلمين فيما يسمى "الفلسفة الإسلامية" وفي التراجم التي كان المسلمون قد ترجموها عن الإغريقية، وأن أوروبا استردته عن طريق التعلم في مدارس المسلمين وأقامت جانب من نهضتها عليه.. فهذا صحيح.
ولكن هذا التراث الإغريقي، على كل اعتزاز أوروبا به وتعصبها له، لم يكن صالحا -وحده- لإقامة النهضة الأوروبية، ولا أي نهضة على الإطلاق، باعتباره مجموعة من "الأفكار" التجريدية الذهنية المنقطعة عن واقع الحياة. وهو -بكل لمعانه الفكري- لم يستطع أن يداوم الحياة في بيئته الأصلية التي أنبتته، فضلا عن أن يكون- وحده- باعث نهضة جديدة على اتساع أوروبا كلها، وعلى اتساع العالم كله في العصر الحديث!
نعم، يوجد في هذه الأفكار قيم ومبادئ يمكن أن تكون زادا لقوم "يرغبون" في الحياة، ويرغبون في إقامة نهضة شاملة. ولكنها -وحدها- لا تبعث فيهم هذه الرغبة ولا تلك.