هذا اللون من التفكير صرف الفكر الأوروبي عن النظر في شئون العالم الأرضي والكون المادي إلا في أضيق نطاق مستطاع، ففي أمور الحياة رضي الناس عامة -والمتدينون خاصة- بعيش الكفاف1 ولم يتطلعوا إلى زيادة الإنتاج أو تحسينه؛ لأن ذلك يخالف روح الدين، ومن ثم لم يسعوا إلى زيادة في العلم تمكنهم من زيادة الإنتاج أو تحسينه.

كذلك لم يهتموا بزيادة معلوماتهم عن الكون المادي من حولهم من فلك أو رياضيات أو كيمياء أو فيزياء.. إلخ؛ لأن الأمر -في حسهم- لا يستحق الاهتمام من ناحية؛ ولأن المعلومات التي تقدمها المصادر "الدينية" عن هذا الكون فيها كفاية لهم من ناحية أخرى. ولم تكن تلك المعلومات تعدو أن الله خلق الأشياء على صورتها لحكمة هو يعلمها. ولغاية هو يريدها، وأن كل شيء يجري على النحو الذي أراده الله منذ الأزل بلا تغيير، وهذا في ذاته حق ولا شك، ولكنه لا يعطي التفسير التفصيلي لظواهر الكون المادي المحيط بالإنسان! ولا ما يحدث من التحول الدائم في الكون والحياة والإنسان!

على هذا النحو الضيق المغلق المحصور كان الفكر الأوروبي فيما يسمى -هناك- بالعصور الوسطى المظلمة، التي استمرت زهاء عشرة قرون، خيم فيها على أوروبا ظلام الجهل والانحسار والانحصار، في ظل الطغيان الكنسي المتعدد الألوان المتشعب الأطراف.

فلما بدأت أوروبا تفيق في عصر النهضة نتيجة احتكاكها بالمسلمين في الحروب الصليبية من ناحية، والاتصال السلمي بمراكز العلم والثقافة في الأندلس والشمال الإفريقي وصقلية وغيرها، كان العقل الأوروبي في حالة تشوق عنيف لاسترداد حريته في العمل، أي: حرية التفكير، ولكن، كما اتسمت فترة العصور الوسطى المظلمة بالتطرف في إلغاء دور العقل والحجر على حرية الفكر، كذلك اتسمت فترة النهضة وما بعدها بالتطرف في الجانب الآخر، جانب إعمال الفكر في كل شيء، سواء كان داخلا في مجال العقل أو غير داخل فيه، وإعماله "بحرية" لا تقبل القيد، سواء كان القيد مشروعا أو غير مشروع!

كان عصر "الأحياء" هو عصر العودة إلى الجاهلية الإغريقية بكل

طور بواسطة نورين ميديا © 2015