ويجرعه آلام الصلب، ليكفر بذلك عن خطيئة لم يرتكبها ذلك الابن إنما ارتكبها آدم وحواء قبل ذلك بزمن لا يحصيه إلا الله! ثم تفرض عليه ذلك فرضا وتقول له هذه هي العقيدة، ومن لم يعتقدها فقد حلت لعنة السماء.
تلك هي المسلمات التي لا يمكن التسليم بها؛ لأن العقل يملك كل دليل ينفيها؛ ولأنها لا تستند إلى شيء إلا قرارات المجامع المقدسة التي تبتدعها من عند نفسها وتزعم مجرد زعم أنها من عند الله، بينما الناس يرون رجال الدين في تلك المجامع يتناقشون ويتحاورون. ويختلفون فيما بينهم أشد الاختلاف، ثم يصدرون القرار من تفكيرهم الذاتي -ولو وكا وحيا سماويا لالتزموا به عقيدة ولم يجز لهم الاختلاف فيه- ثم يرون أسوأ من هذا أن الأقلية تصدر القرار أو تفرضه فرضا على الأكثرية ثم تطرد الأكثرية بالقوة كما حدث في مجمع خلقدونية.. ولا تطردهم من المجمع فحسب. بل تزعم كذلك أنها تطردهم من رحمة الله!
ومن أجل هذه المسلمات المزعومة لا يمكن للعقل التسليم بها فقد حظرت الكنيسة على العقل أن يفكر فيها أو يناقشها، وزعمت للناس أن التفكير فيها مناف للإيمان، وأن الموقف الصحيح للمؤمن هو التسليم بها بغير جدال، وتفويض الأمر فيها لا -لله! - بل "لقداسة" البابا ومن حوله من "كبار" رجال الدين!
وفي ظل الإرهاب الفكري الذي مارسته الكنيسة انكمش نشاط العقل الأوروبي وانحصر في التسليم بما تمليه الكنيسة والمجامع المقدسة، ومحاولة التوفيق بينه وبين مقتضيات التفكير السليم، في مغالطات "فلسفية" هي أقرب إلى التلفيق منها إلى التوفيق!
ومن ناحية أخرى انصرف الفكر الأوروبي عن النظر في هذا العالم وفي الحياة الدنيا بتأثير آخر من تأثيرات الدين الكنسي المحرف. فقد أوحت المسيحية المحرفة إلى الناس بأن هذه الدنيا لا سبيل إلى إصلاحها أو تقويم معوجها؛ لأنها ناقصة بطبيعتها، وأن الطبيعة الإنسانية ناقصة كذلك، ولا سبيل إلى إصلاحها إلا بصرفها عن الاهتمام بالحياة الدنيا جملة، وصرف اهتمامها إلى اليوم الآخر كما ألمحنا في فصل "العلمانية"، وأنه بقدر ما ينصرف الإنسان عن هذا العالم والتفكير فيه -بالرهبانية- يكون أقرب إلى الصلاح، وأقرب إلى الفوز بملكوت الرب في العالم الآخر.