"أخلاقيات" المسيحية رضوا أم كرهوا، عن إيمان حقيقي أم عن ملق للروح المسيحية ونفاق.. وليس معنى ذلك أن الحكام التزموا دائما بتلك الأخلاقيات المسيحية، فكثيرا ما كانوا يخالفونها ولكنهم كانوا يحسون بالحرج من مخالفتها، ويعتذرون دائما عن المخالفة بشتى المعاذير.
فالذي صنعه مكيافيللي هو تعرية "السياسة" من ذلك القناع الأخلاقي المستمد من الدين، وكشفها عارية من كل أثر للدين أو الأخلاق!
جاء يشرع الجريمة السياسية ويجعلها أصلا ينبغي للحكام أن يتبعوه!
ولقد كان الحكام -إلا من رحم ربك- يسيرون في سياستهم على أساس أن الغاية تبرر الوسيلة، والغاية طبعا هي غايتهم هم! ولكنهم كانوا -حين يستخدمون الوسائل غير النظيفة لتحقيق غاياتهم غير النظيفة- يستترون وراء عبارات براقة تحوي كل نبيل من القيم والمبادئ والأخلاقيات، أما مكيافيللي فإن الجديد الذي أتى به -وهو خطير في ذاته- أنه أعطى الوسائل الخسيسة في السياسة شرعية صريحة لا مواربة فيها ولا إنكار.
ولقائل أن يقول: وماذا أضاف مكيافيللي من عنده إلى الواقع؟ ألم يكن الواقع خسيسا في غاياته ووسائله؟ فكل ما فعل مكيافيللي أنه كان صريحا بالدرجة التي كشف بها القناع عن الواقع المزيف وجعله حقيقة واقعة!
نعم: ولكن الفارق -العملي- كبير!
وقد لا يتضح الفرق في البداية؛ لأن البداية تكون مجرد مطابقة النظرية للواقع الموجود بالفعل، ولكن الفارق يتبين -ويزداد- مع التطبيق.
حين ترتكب المنكر وأنت شاعر بأنه منكر، فستقتصد في ارتكابه فلا تلجأ إليه إلا تحت ضغط قاهر، وستقف في ارتكابه عند الحد الذي ترى أنه لا يطيح بسمعتك كلها أمام الناس، وقد تحاول الرجوع عنه في يوم من الأيام، أما حين يكتسب المنكر في حسك الشرعية فلماذا تقتصد في ارتكابه، ولماذا تقف عند حد من الحدود؟!
إنها هي ذاتها حكمة وقوع اللعنة على الذين لا يتناهون عن منكر فعلوه.. لأنهم لا يقفون في ارتكاب المنكر عند حد معلوم.
وحقيقة إن كتاب "الأمير" الذي ألفه مكيافيللي وأعطى فيه الشرعية للوسائل الخسيسة التي يستخدمها الحاكم من كذب وغش وخديعة وقتل وسفك