بروميثيوس فقد وكل به نسرا يأكل كبده بالنهار ثم تنبت له كبد جديدة بالليل يأكلها النسر بالنهار في عذاب أبدي!
وأما الإنسان فقد أرسل له زيوس "باندورا" "التي ترمز إلى حواء" لكي تؤنس وحشته "في ظاهر الأمر! " وأرسل معها هدية عبارة عن علبة مقفلة، فلما فتحها إذا هي مملوءة بالشرور التي قفزت من العلبة وتناثرت على سطح الأرض لتكون عدوا دائما وحزنا للإنسان!
ويشير جوليان هكسلي إشارة صريحة إلى هذه الأسطورة في كتابه "الإنسان في العالم الحديث Man in the modern world" فيقول إن موقف الإنسان الحديث هو ذات الموقف الذي تمثله هذه الأسطورة، فقد كان الإنسان يخضع لله بسبب الجهل والعجز، والآن بعد أن تعلم وسيطر على البيئة فقد آن له أن يأخذ على عاتق نفسه ما كان يلقيه من قبل في عصر الجهل والعجز على عاتق الله. ويصبح هو الله!!
من هذين التأثيرين معا انطلق الفكر "المتحرر" يهاجهم الدين، ويصفه بأنه الأغلال التي تغل الفكر عن الانطلاق، والتي ينبغي أن تحطم لكي يثبت الإنسان وجوده ويقوم بدوره الذي يجب أن يقوم به في الأرض!
وفي نفس الوقت اتجه الفكر المنسلخ من الدين إلى البحث عن مصدر آخر للقيم الإنسانية غير الدين! ذلك أن أوروبا لم تكن قد انسلخت بعد من القيم ذاتها كما حدث فيما بعد حين امتد الخط المنحرف فازداد بعدا وانحرافا، أولم تكن قد سنحت الفرصة للشريرين أن يعلنوا الحرب المنظمة على كل مقومات "الإنسان" كما سنحت لهم بعد ظهور الداروينية وإعلان حيوانية الإنسان!
ففي تلك الفترة وجد "الفكر الحر! " أنه إن أقر بأن الدين هو مصدر القيم الإنسانية فقد وجب عليه أن يحافظ عليه ولا يهاجمه ولا يسعى إلى تحطيمه! فينبغي إذن أن يبحث ذلك الفكر عن مصدر آخر يستمد منه القيم ويسندها إليه، لكي لا يقول أحد إنه لا يمكن الاستغناء عن الدين! وعلى هذا الضوء يمكننا فهم فلسفة "أوجست كومت" من ناحية، وأفكار جان جاك روسو من ناحية أخرى. فكلاهما يجهد نفسه ليقول للذين يقفون مدافعين عن الدين: ها قد وجدنا مصدرا آخر تنبع منه القيم الضرورية لحياة الإنسان غير الدين، وجدناه في "الطبيعة" وفي "النفس البشرية" وهو مصدر أفضل في إنبات القيم