ولكن أوروبا -بدافع العصبية الصليبية- أعرضت عن هذا الدين واتجهت إلى الجاهلية الإغريقية الرومانية، تنتقم بها من الكنيسة ودينها الفاسد الذي يهمل الحياة الدنيا ويلغي الوجود الإيجابي للإنسان.
وإذ كانت النهضة في مجموعها "رد فعل" للكبت الواقع على "الإنسان" بفعل التصور الكنسي للدين، والممارسة الكنسية له، وإذا كان الغالب على ردود الفعل هو الاندفاع لا التعقل ولا التبصر ولا الروية ولا الاتزان.. فقد اندفعت أوروبا في نهضتها تنزع من طريقها كل معلم من المعالم الإلهية "سواء كانت إلهية حقا أو مدعاة من قبل الكنيسة" وتضع مكانها معالم بشرية من صنع الإنسان، كما تنزع من طريقها كل ما يتصل بالآخرة لتضع بدلا منه ما يتصل بالحياة الدنيا، وكانت هذه هي بداية "العلمانية" بالتعريف الأوروبي..
لقد أصبح الطابع المميز للفكر الأوروبي منذ النهضة هو التمرد على الدين والتمرد على الله، وكان ذلك نابعا من تأثيرين في آن واحد: التأثير الأول هو روح رد الفعل الذي قام ضد الدين والكنيسة والثاني هو تأثير الجاهلية الإغريقية في هذا الشأن بالذات.
فأما رد الفعل فقد أخذ صورة الخروج على كل ما كان سائدا من قبل في فترة السيطرة الكنسية.
كان السائد هو ألا يفكر الإنسان لنفسه في شيء من الأشياء إنما يأخذ الأفكار جاهزة من الكتب المقدسة وشروحها عن طريق رجال الدين، سواء كانت الأفكار متصلة بالعقيدة أو بأمر من أمور الدنيا، أو حتى أمور العلم كقضية شكل الأرض.
وغني عن البيان أن هذا ليس الموقف الصحيح للإنسان في ظل الدين الصحيح1 ولكن هكذا كانت الممارسة الدينية في ظل الجاهلية الكنسية المنحرفة، والتي من جرائها كان لرجال الدين كل ذلك النفوذ على عقول الناس وأرواحهم، فهم الوسطاء بين الناس وبين الدين ومفاهيمه، بل هم الوسطاء بين الناس وبين الله، والناس -علماء أو غير علماء- لا يبحثون في أي شأن من الشئون ليكونوا فيه رأيا أو موقفا، إنما يسألون رجال الدين ليدلوهم على الرأي