أن ينشئ شيئا من عند نفسه ولو كان يلتزم في هذا الإنشاء بالهدي الرباني. ومن ثم كذلك كان ثبات الأوضاع في أوروبا في العصور الوسطى لفترة طويلة من الزمان بكل ما تحمل من ألوان الفساد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والفكري والروحي، على أساس أنها قدر الله الذي لا يجوز للناس تغييره, إنما ينبغي الخضوع له والمحافظة عليه تقربا إلى الله.
هذا الدين بصورته تلك لم يكن هو الدين المنزل من عند الله، ولم يكن -كما أسلفنا- صالحا للحياة. كان لا بد من نبذه والانسلاخ منه لكي تسير دفعة الحياة في خطها الصحيح.
ولقد كان على مقربة من أوروبا -بل في جزء من أرضها- دين آخر يقدم المنهج الصحيح للحياة، فلا هو دين أخروي بحت بمعنى إهمال الحياة الدنيا، ولا هو الدين الذي يفرض السلبية الكاملة على الإنسان، ويفرض عليه الخضوع "للأمر الواقع" وعدم التفكير في تغييره.
إنه دين يعمل للآخرة من خلال العمل في الدنيا "الدنيا مزرعة الآخرة".
ويبين أن العمل للآخرة لا يعني إهمال الحياة الدنيا {وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} 1 {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 2.
وهو دين يعمل لإصلاح الحياة الدنيا بإقامة المنهج الرباني الذي يأمر بالعدل والقسط، كما يدعو إلى الجهاد لإقامة هذا المنهج ومنع الانحراف عنه، ذلك الانحراف الذي يؤدي إلى فساد الحياة وإلى وقوع الظلم على الناس:
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} 3.
وهو دين يجعل للإنسان إيجابية واسعة في الأرض.
فقد خلقه الله ابتداء ليكون خليفة في الأرض:
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} 4.