المسيحية لا أيام ضعفها في القرون الأولى ولا حين أصبح لها السلطان1.

إنما يسعى كل إنسان إلى خلاصه الشخصي، كالذي يسير على معبر دقيق كل همه ألا يفقد توازنه فيقع في الهاوية، أو كالذي يسير في الوحل كل همه أن يشمر ثيابه ويلتفت إلى مواقع قدميه حتى لا ينزلق أو يتلطخ بالوحل، لا يهمه أن يصحح مواضع أقدام الآخرين أو يقيهم من الانزلاق.

ومن هنا فإن هذا الدين في صورته الكنسية تلك لم يكن يسعى إلى تحسين أحوال البشر على الأرض، أو إزالة المظالم السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تقع عليهم، وإنما يدعو إلى الزهد في الحياة الدنيا برمتها، وترك كل شيء على ما هو عليه؛ لأن فترة الحياة الدنيا أقصر وأضأل وزنا من أن يحاول الإنسان تعديل أوضاعه فيها إنما يسعى جاهدا إلى الخلاص منها دون أن يعلق بروحه شيء من الآثام، والمتاع ذاته هو من الآثام التي يحاول المتطهرون النجاة منها بالرهبنة واعتزال الحياة.

بل أكثر من ذلك: إن احتمال المشقة في الحياة الدنيا، واحتمال ما يقع فيها من المظالم هو لون من التقرب إلى الله يساعد على الخلاص، ومن ثم دعت الكنيسة الفلاحين للرضا بالمظالم التي كانت تقع في ظل الإقطاع وعدم الثورة عليها لينالوا رضوان الله في الآخرة، وقالت لهم: "من خدم سيددين في الحياة الدنيا خير ممن خدم سيدا واحدا"!.

ومن جهة أخرى كان هذا الدين يحصر كيان الإنسان في نطاق محدود محصور أشد الحصر، ليبرز جانب الألوهية في أكمل صورة.

ألوهية الله في ذلك الدين معناها السلبية الكاملة للإنسان، وحصر دوره -لا في العبادة بمعناها الواسع أي: على النحو الذي قرره الإسلام، والذي يشمل عمارة الأرض بمقتضى المنهج الرباني- إنما في الخضوع لقدر الله القائم، وعدم العمل على تغيير شيء من الواقع المحيط بالإنسان؛ لأن محاولة التغيير- ولو إلى الأحسن- تحمل في طياتها "عدم الرضا" بالأمر الواقع، وهو لون من التمرد على إرادة الله لا يقره ذلك الدين.

ومن ثم فإن فاعلية الإنسان محصورة في الطاعة للأوامر الإلهية -كما تعرضها الكنيسة بالحق أو الباطل- لا تتعداها إلى الإنشاء؛ لأنه ليس للإنسان

طور بواسطة نورين ميديا © 2015