الانحرفات في سلوك رجاله، ثم يبحث عن الدين الصحيح فيعتنقه، وقد فعلت أوروبا الأمر الأول فنبذت دين الكنيسة بالفعل، ولكنها لم تفعل الأمر الثاني حتى هذه اللحظة إلا أفرادا متناثرين لم يصبحوا بعد "ظاهرة" ملموسة. ومن هنا نقول إن الظروف التي أحاطت بالدين في أوروبا تفسر ولا تبرر. تفسر شرود الناس في أوروبا عن الدين ولكنها لا تبرره ... فإنه لا شيء على الإطلاق يبرر بعد الإنسان عن خالقه، ونبذه لعبادته على النحو الذي افترضه على عباده، سواء بالاعتقاد بوحدانيته سبحانه، أو بتوجيه الشعائر التعبدية إليه وحده أو بتنفيذ شريعته، فهذا هو الذي قال الله فيه: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} 1.

على أن الذي يعنينا الآن ليس هو محاسبة أوروبا على انحرافاتها في مجال الدين والعقيدة، فالخلق صائرون إلى ربهم وهو الذي يحاسبهم:

{فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ، إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ، فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ، إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} 2.

ولكن الذي يعنينا هو شرح هذه الانحرافات وبيان الصورة التي حدثت عليها، والظروف التي أحاطت بها منذ مبدئها حتى صارت إلى ما صارت إليه.

ونخطئ -من وجهة نظرنا الإسلامية- إن قلنا إن "العلمانية" حدثت فقط بعد النهضة، فالحقيقة -من وجهة النظر الإسلامية- إن الفصل بين الدين والحياة وقع مبكرا جدا في الحياة الأوروبية، أو أنه -إن شئت الدقة- قد وقع منذ بدء اعتناق أوروبا للمسيحية؛ لأن أوروبا -كما أسلفنا في التمهيد- قد تلقت المسيحية عقيدة منفصلة عن الشريعة "بصرف النظر عما حدث في العقيدة ذاتها من تحريف على أيدي الكنيسة" ولم تحكم الشريعة شيئا من حياة الناس في أوروبا إلا "الأحوال الشخصية" فحسب, أي: إنها لم تحكم الأحوال السياسية ولا الأحوال الاقتصادية ولا الأحوال الاجتماعية في جملتها.

وهذا الوضع هو علمانية كاملة من وجهة النظر الإسلامية3 ولكن الذي تقصده أوروبا بالعلمانية "Secularism" ليس هذا؛ لأنها لم تألف الصورة الحقيقية للدين أبدا في يوم من الأيام! إنما الذي تقصده أوروبا حين تطلق هذه

طور بواسطة نورين ميديا © 2015