والعوامل التي توقظ الفطرة فتبعثها تبحث عن الله باقية ما بقي الإنسان في الأرض، لا تتغير مهما بلغ من علم الإنسان أو سيطرته على البيئة.
ومن أجل ذلك بقيت ظاهرة التدين قائمة خلال التاريخ البشري كله، بصرف النظر عن هذا الجيل الممسوخ الذي دفعته عوامل معينة -معروفة- إلى مغالبة الفطرة والتبجح بإنكار وجود الله.
والذي ألغاه تعلم الإنسان وسيطرته على البيئة لم يكن هو الدين الصحيح، إنما كان بعض انحرافات الجاهلية وتصوراتها الساذجة، فحين توهم البشر -في بعض جاهليتهم- أن المطر إله والريح إله والرعد إله والبرق إله. وأن وجه الأرض مملوء بالأرواح الشريرة التي يؤثر فيها السحر، أو حين توهموا -في طور آخر- أن بعض الحيوانات آلهة تعبد -كبقرة الهند والعجل أبيس في مصر الفرعونية وغيرها- أو حين توهموا في طور ثالث أن بعض الأجرام السماوية آلهة كالشمس والقمر والنجوم ... كانت هذه كلها أوهاما ساذجة يمكن أن يمحوها العلم أو يمحوها زيادة سيطرة الإنسان على البيئة.
أما الدين الصحيح -وهو عبادة الله الخالق وحده بلا شريك- فقد وجد منذ بدء البشرية وظل قائما إلى هذه الساعة لم يؤثر فيه العلم ولا سيطرة الإنسان على البيئة؛ لأنه لم ينشأ من الجهل العارض أو العجز العارض كما يزعم التفسير المادي للتاريخ ومن لف لفه من الملحدين، إنما نشأ من حقيقة أزلية هي وجود الله الخالق البارئ المصور، وكون الإنسان مخلوقا خلقه الله، وأودع في فطرته أن يتوجه لعبادة الله، وإن كان قد أودع في فطرته في الوقت ذاته قدرة على الاختيار بين طريق الهدى وطريق الضلال.
وفي عهود البشرية السحيقة حين كانت أقوام تعبد الأب، أو تعبد الطوطم، أو تعبد قوى الطبيعة، أو تعبد الأفلاك، أو تعبد الأصنام كان هناك مؤمنون يعبدون الله وحده بلا شريك، فيتقدمون إليه وحده بالعبادة والنسك، ويطبقون شريعته في واقع حياتهم.
فإذا كان نمو العلم ونمو سيطرة الإنسان على البيئة قمينا بأن يلغي أساطير الجاهليات المختلفة في أمر الدين، فليس من شأنه أن يلغي الدين ذاته، المركوز في الفطرة، الذي ينبثق حتى في الجاهلية المعاصرة الملحدة الكافرة، فيعلن صوت الفطرة رغم كل الحواجز التي تريد أن تخنق ذلك الصوت.
وأما كون الإقطاع والرأسمالية يستخدمان الدين مخدرا للجماهير لترضى