إن له جذورا أعمق من ذلك في بعض اتجاهات الفلسفة الإغريقية القديمة واتجاهات الحياة الرومانية قبل المسيحية. وقد قامت النهضة الأوروبية كما سبق أن بينا على أساس معاد للدين.. كما أنها رجعت إلى الأصول الإغريقية الرومانية تستمد منها، بدلا من الأصول الدينية المسيحية التي كانت منسلخة منها منقلبة عليها.
وحين قامت النهضة انقلب اتجاه التفكير في أوروبا من ناحيتين اثنتين على الأقل، كلتاهما تعضد الأخرى, فقد كان الفكر الأوروبي في فترة المسيحية الكنسية قائما على أصول دينة -بصرف النظر عما وقع فيها من تحريف عن الأصل الصحيح- أي: إن مصدرها -في حسهم- هو الله والوحي الرباني؛ ثم إن هذا الفكر كان متجها إلى الآخرة على أساس أن الخلاص الحقيقي هناك. وأنه لا خلاص في الحياة الدنيا ... أما فكر النهضة فقد كان "إنسانيا" من جهة، وموجها إلى الحياة الدنيا من جهة أخرى. إنساني لا بمعنى أنه مشغول بالقيم العليا الإنسانية أو "بالإنسان" كما ينبغي أن يكون في صورته الكريمة اللائقة بإنسانيته، ولكن بمعنى أن الإنسان -وليس الله- هو الذي ينبغي أن يكون مصدر المعرفة، وأن الفكر الإنساني -لا الوحي الرباني- هو المرجع الذي يرجع إليه الإنسان في النظر إلى أمور حياته ومتطلباتها، وفي الوقت ذاته كان هذا الفكر موجها إلى النظر في الحياة الدنيا ومقتضياتها لا إلى الآخرة ومقتضياتها.
يقول رايوبرث عن عصر النهضة:
"وامتاز ذلك العصر بشعور الإنسان فيه بشخصيته المطلقة وبمعارضته للسلطة وذويها، وذهابه شوطا بعيدا في اعتبار العالم كله وطنا له.. وقد أعلت النهضة شأن الطبيعة الإنسانية والحياة الدنيوية مخالفة في ذلك طريقة التفكير في القرون الوسطى.. ولذلك يسمى العلماء الذين خصصوا أنفسهم لدراسة آداب اليونان والرومان والعلوم عند القدماء "الإنسانيين" ... وكان من خير ما أحدثه هؤلاء الإنسانيون "نمو الفردية" أعني الرأي القائل بأن الإنسان ينبغي أن يفكر بنفسه لنفسه، وهو رأي كان قد أهمل في عصر عبودية العقل1.