لم يكن حق التنقل من مكان إلى مكان مكفولا في ظل الإقطاع، فقد كان معظم الناس عبيدا أو في حكم العبيد، وكان هذا من المظالم التي قامت الثورة الفرنسية لتحطيمها وإن تكن الرأسمالية الناشئة كانت ذات مصلحة خاصة -في نفس الوقت- في تحطيم هذا القيد, لتحصل على العمال اللازمين للصناعة, والذين كانت قيود الإقطاع تحجزهم في الريف وتمنعهم من الوصول إلى المدينة.
ولكن الأمر لم يتم في يوم وليلة، فقد ظل "الفقراء" خاضعين لكثير من القيود في تنقلاتهم، تطاردهم الشرطة وتتهمهم بالتشرد وتطالبهم بإثبات أنهم ليسوا مجرمين! وبإيجاد مبرر مقبول لوجودهم حيث هم موجودون! بينما الأغنياء يذهبون حيث يشاءون لمجرد أنهم أغنياء، ومن ثم فهم غير مشبوهين.
ورويدا رويدا أخذت تلك القيود المفروضة على حرية التنقل تذوب، وأصبح كل إنسان -مهما يكن عمله أو مكانه في المجتمع- حرا في أن يتنقل داخل الدولة الواحدة ما دام "مواطنا" في تلك الدولة. وكانت كلمة المواطن ذاتها من المعاني التي استحدثتها الديمقراطية فأصبح المواطنون جميعا متساوين -نظريا- في جميع الحقوق والواجبات بحكم أنهم جميعا مواطنون في وطن واحد، وأصبحوا بالفعل متساوين في كثير من الحقوق. أما المساواة التامة فلنا مراجعة بشأنها فيما بعد.
ونلحظ من لفظة "المواطن" في اللغات الأوروبية "Citizen" أنها نبعت من المدينة "City" فمن هناك بدأت حركة المطالبة بالمساواة، ومن هناك طالب المطالبون بأن يتساوى كل السكان -أي: سكان المدينة- في الحقوق والواجبات، وبعد أن نالت المدينة حقوقها عمم ذلك على جميع السكان في الوطن كله، ولكن اللفظة الأوروبية لم تتغير، وظل اشتقاقها من المدينة باقيا حتى بعد أن اتسع مدلولها فشملت كل السكان ... أما اللفظة العربية فقد ترجمت متأخرة، حين بدأت الأفكار الديمقراطية تصبح موضع حديث في البلاد الإسلامية الناطقة بالعربية فأخذت المدلول الأخير للكلمة، المتصل "بالوطن" كله لا بالمدينة فحسب.