الْوَحْي الَّذِي أنزل على نَبِي هَذَا الدّين، فَقَالَ لجَعْفَر:
هَل مَعَك مِمَّا جَاءَ بِهِ عَن الله شَيْء؟.
فَقَالَ جَعْفَر: نعم.
فَقَالَ النَّجَاشِيّ: فاقرأه عَليّ!
فَقَرَأَ جَعْفَر {كهيعص} صَدرا من سُورَة مَرْيَم.
فَلَمَّا سَمعه النَّجَاشِيّ بَكَى وبكت أساقفته، ثمَّ قَالَ: إِن هَذَا وَالَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى ليخرج من مشكاة وَاحِدَة.
وَنظر النَّجَاشِيّ إِلَى عَمْرو وَصَاحبه، وطردهما من مَجْلِسه، وَأمر برد مَا حملا إِلَيْهِ من الْهَدَايَا، وَقَالَ: انْطَلقَا فوَاللَّه لَا أسلمهم إلَيْكُمَا، وَلَا يكادون.
وحز فِي نفس عَمْرو أَن يطرد من مجْلِس الْملك هَذِه الطردة، وَكبر عَلَيْهِ أَن يعود بِهَذِهِ النتيجة المؤسفة، وَكَيف يرجع إِلَى قومه دون أَن يُحَقّق لَهُم مَا أَرَادوا وهم لم يختاروه إِلَّا لإيمانهم بِأَنَّهُ الشخصية العبقرية القادرة على تَحْقِيق تِلْكَ المكيدة، إِن عودة عَمْرو دون أَن يكون مَعَه الْمُهَاجِرُونَ من الْمُسلمين خيبة أمل فِي دهائه، وَحكم بالفشل على عبقريته، وَقَضَاء على مَنْزِلَته بَين قومه.
وفكر عَمْرو كثيرا فِي الْأَمر، وهداه تفكيره إِلَى مكيدة لم يجربها بعد، فعزم على تنفيذها، وَقَالَ: وَالله لآتينهم غَدا بِمَا استأصل بِهِ خضراءهم1.
وَدخل على النَّجَاشِيّ من الْغَد، وَقَالَ: أَيهَا الْملك إِنَّهُم يَقُولُونَ فِي عِيسَى بن مَرْيَم قولا عَظِيما، فأرسلْ إِلَيْهِم فسلْهم عَمَّا يَقُولُونَ فِيهِ.
وَأرْسل النَّجَاشِيّ إِلَى الْمُسلمين، وسألهم عَمَّا يَقُولُونَ فِي عِيسَى بن مَرْيَم عَلَيْهِ السَّلَام، ورد عَلَيْهِ جَعْفَر - رَضِي الله عَنهُ - فَقَالَ: نقُول فِيهِ مَا جَاءَنَا بِهِ نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هُوَ عبد الله وَرَسُوله وروح مِنْهُ وكلمته أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَم الْعَذْرَاء البتول.
فَأخذ النَّجَاشِيّ عودا من الأَرْض، وَقَالَ: وَالله مَا عدا عِيسَى بن مَرْيَم مَا قلت هَذَا الْعود.
والتفت إِلَى جَعْفَر وَأَصْحَابه وَقَالَ: اذْهَبُوا فَأنْتم شيوم بأرضي - أَي آمنون - من سبكم غرم، من سبكم غرم، من سبكم غرم، مَا أحب أَن لي دبرا من ذهب - أَي جبلا - وَأَنِّي آذيت أحدا مِنْكُم.
والتفت مرّة أُخْرَى إِلَى عَمْرو وَصَاحبه، وَقَالَ لحاشيته: ردوا عَلَيْهِمَا هداياهما فَلَا حَاجَة لي بهَا، فوَاللَّه مَا أَخذ الله مني الرِّشْوَة حِين رد عَليّ ملكي فآخذ الرِّشْوَة فِيهِ، وَمَا أطَاع النَّاس فِي فأطيعهم فِيهِ، فَخَرَجَا من عِنْده مقبوحين2.