ونجح جَعْفَر الداعية فقد بلغ الدعْوَة إِلَى النَّجَاشِيّ نَفسه، وأقنعه بِالْحَقِّ الَّذِي جَاءَ بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؛ فَأسلم وَمَات مُسلما1.
وباء رَسُولا قُرَيْش بخيبة أمل لم يتوقعها أحد، وَلم تَنْفَع عبقرية عَمْرو وَلَا دهاؤه فِي بُلُوغ الأمل الَّذِي علقته قُرَيْش عَلَيْهِمَا، وَسعد الْمُسلمُونَ بجوار النَّجَاشِيّ، وبقوا عِنْده حَتَّى عَادوا يَوْم فتح خَيْبَر يتزعمهم جَعْفَر بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ، وَقد سر الرَّسُول – صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - بقدومه، وَقَبله بَين عَيْنَيْهِ، وَالْتَزَمَهُ وَقَالَ: مَا أَدْرِي بِأَيِّهِمَا أسر، بِفَتْح خَيْبَر أم بقدوم جَعْفَر؟ 4.
باستعراض هَذِه النماذج من حَيَاة الدعاة وطرائقهم فِي تَبْلِيغ الدعْوَة نفهم الْأُمُور الْآتِيَة:
1- إِن على الدعاة أَن يتفقهوا فِي الدّين، وَأَن يتعلموا الْأُمُور الَّتِي سيبلغونها لغَيرهم، لِأَن الْجَهْل يَتَرَتَّب عَلَيْهِ أضرار تعرض الدعْوَة لهجوم أعدائها عَلَيْهَا، وتمكنهم من النّيل مِنْهَا وتشويهها.
وَالْإِنْسَان عَادَة لَا يَسْتَطِيع أَن يمنح شَيْئا لَيْسَ عِنْده، إِذْ فَاقِد الشَّيْء لَا يُعْطِيهِ، وَالنَّاس أَعدَاء لما جهلوا، فَإِذا لم يكن الداعية على جَانب من الْعلم وَالْفِقْه يُمكنهُ من شرحها، وَدفع الشُّبُهَات والافتراءات عَنْهَا؛ كَانَ ضَرَره عَلَيْهَا أَكثر من نَفعه.
وَلِهَذَا فَإِن الطُّفَيْل بن عَمْرو لما دخل الْإِسْلَام فِي قلبه تبع رَسُول الله - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - حَتَّى دخل بَيته ثمَّ دخل عَلَيْهِ، وَأخْبرهُ بِأَنَّهُ أسلم، وَقَالَ: اعْرِض عَليّ أَمرك، فَعرض عَلَيْهِ الْإِسْلَام، وتلا عَلَيْهِ الْقُرْآن، ثمَّ اسْتَأْذن رَسُول الله فِي أَن يَدْعُو قومه إِلَى مَا آمن بِهِ، فَأذن لَهُ الرَّسُول، وَلما دَعَا الطُّفَيْل وَالِده واستجاب قَالَ لَهُ: اذْهَبْ فاغتسل، وطهر ثِيَابك ثمَّ تعال حَتَّى أعلمك مَا علمت1.
هَكَذَا يَقُول الطُّفَيْل: (حَتَّى أعلمك مَا علمت) ، وَهُوَ بِهَذَا يَدْعُو إِلَى شَيْء تعلمه وفهمه، إِذْ لَيست الدعْوَة حماسا وخطبا وَلكنهَا علم وَعمل.
وَأما ضمام بن ثَعْلَبَة فَإِنَّهُ لما وَفد على رَسُول الله - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم – لم يُغَادر مَجْلِسه حَتَّى تعلم أَرْكَان الْإِسْلَام، وَعرف الْحَلَال وَالْحرَام، وَعَاد إِلَى قومه فأعلن إِسْلَامه، وَقَالَ لِقَوْمِهِ: إِن الله بعث رَسُولا، وَأنزل كتابا استنقذكم بِهِ مِمَّا كُنْتُم فِيهِ، ثمَّ نطق بِالشَّهَادَتَيْنِ وَقَالَ: وَإِنِّي قد جِئتُكُمْ من عِنْده بِمَا أَمركُم بِهِ ونهاكم عَنهُ2.